
أغنية يا مالكًا أمري بصوت عبدالحليم تصدر من الراديو...
"مالي أحس أنني روح غريب في الحياةيا فاتنا عمري هل إنتهى أمرييا فاتنا عمري هل إنتهى أمريأخاف أن أمشي في غربتي وحديأخاف أن أمشي في غربتي وحديفي ظلمة الأسر يا مالكا قلبي"
- اقفل الراديو ده
ياحودة.
- ليه بس يا استاذ عليوة؟
- هو كده، اقفله بدل ما اسيبلك القهوة واقوم امشي.
- بس انا عايز اسمع الحفلة.
- خلاص ياض يا حودة، اسمع كلام الاستاذ عليوة واقفل
الراديو.
- حاضر يا معلم.
قرب مني المعلم وقعد
على الكرسي اللي جنبي، بعدها طبطب على رجلي وهو بيقولي بشفقة...
- لسه مالهاش أثر؟
رديت عليه بحزن...
- لسه يا معلم، انا زهقت ومش عارف اعمل ايه؟.. وفي
نفس الوقت مش قادر أعيش من غيرها.
- ربك كريم يا استاذ عليوة وان شاء الله هيعترك
فيها.
- انا اللي هيجنني اني مش عارف ممكن تكون راحت فين؟
- طب وأهلها، مايعرفوش عنها حاجة؟
- مايعرفوش، دي أمها هتتجنن عليها، وابوها كل يوم
بينزل يدور معايا لما جاله ضربة شمس، واخر مرة وقع مني في الشارع، ومابقيتش عارف اشيله
ولا أدور على بنته.
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يطمنكوا عليها
يارب.
- يارب يا معلم.
******
ده مش أول الحكاية،
الحكاية ابتدت من زمن الزمن، خليني الأول اعرفك بنفسي، انا عليوة عبدالصمد، موظف بسكك
حديد مصر، اتولدت سنة 1948 في قرية من القرى المصرية البسيطة، بعد ثورة 52 ابويا الحاج
عبد الصمد قرر ننقل للقاهرة، او زي ماكانوا بيقولوا عليها زمان المحروسة.. جينا انا
وابويا وامي واخويا الكبير صابر، عيشنا في حي من الاحياء الشعبية، اتربيت وكبرت وسط
الحي وبقيت واحد من ابناء المحروسة، أهل الحتة كانوا ناس طيبين، الدنيا كان لسه فيها
خير وقتها، او يمكن حالة عدم الاستقرار والظروف اللي البلد كانت بتمر بيها، خلت اهلها
يوقفوا ايد واحدة ويقربوا من بعض، في الوقت ده كانوا اقرب ناس لينا هم جيرانا اللي
ساكنين في البيت اللي جنبنا، عمي مصباح ومراته، خالتي فتحية، وكريمة بنتهم، كريمة كانت
اصغر مني بسنة، كنت بحس ان كريمة مسؤولة مني دايمًا، أصلها ماكانتش بتعرف تعمل أي حاجة
غير لما أكون معاهأ، وده مش من فراغ، لكنها ابتدت تعمل كده بعد اللي حصل.
كنا في اجازة اخر
السنة، كان عندي وقتها حوالي 13 سنة وكريمة كان عندها 12 سنة، كنا بنلعب في مرة عند
المخزن المهجور، وده مخزن كانوا الانجليز بيستخدموه لتخزين الأسلحة والذخيرة بتاعتهم،
ومن يوم ما غاروا من البلد وفضِل المخزن كده مهجور وماحدش بيستخدمه، في اليوم ده كان
معانا أربعة من اصحابنا في الحتة، 3 ولاد وبنت، قررت انا والاولاد اننا هنلعب كورة،
وفضلت كريمة وعلا صاحبتها قاعدين بره بيتفرجوا علينا، كنت مبسوط انها قاعدة بتتفرج
عليا، بس بعد فترة زِهقِت وقالت انها هتلعب هي وعلا جنبنا هنا، واختفت بعد فترة عن
عينيا وانشغلت انا في اللعب، لحد ما لقيت علا جاية بتجري وهي بتصرخ...
- الحق يا عليوة كريمة اتحبست في الأوضة ومش عارفة
تخرج.
سألتها وانا مخضوض...
- أوضة ايه؟
- ماعرفش، هي دخلت أوضة والباب اتقفل عليها.
جريت بسرعة انا والاولاد
مع علا اللي شاورت لنا على الأوضة، كان باب حديد مقفول، خبطت على الباب جامد وانا بنده
عليها...
- كريمة، ياكريمة، انتِ فين؟
بعد شوية لقيتها
بتبص لي من فتحة صغيرة موجودة في الباب وبتقولي بعياط...
- عليوة.. خرجني من هنا.
- ايه اللي دخلك جوة؟.. ومين اللي قفل عليكِ الباب؟
- ماعرفش.. انا كنت بتفرج على الأوضة وفجأة الباب
اتقفل ومش عايز يفتح.
- طب.. طب حاولي تشدي أوكرة الباب لتحت جامد.
- مش قادرة، انا خايفة، في أصوات غريبة هنا.
- ماتخافيش يا كريمة، انا هطلعك.
فضلت ابص حواليا
يمين وشمال، ماكنش في أي مدخل للأوضة، ساعتها واحد من العيال اللي واقفين قال...
- بقولك ايه يا عليوة، احنا نروح نقول لعم مصباح
وهو يجي يخرجها احسن.
زعقت فيه...
- لا انا اللي هخرجها، كريمة جاية معايا ومسؤولة
مني، وانتوا هتساعدوني.
- هنخرجها ازاي بس يا عليوة!.. الباب حديد زي ما
انت شايف.
- اكيد في حاجة هنا ممكن نفتح بيها الباب، او في
فتحة تخرج منها.
فضلت الف حوالين
نفسي وقت طويل وانا بحاول القى مخرج، لكن مافيش فايدة، الدنيا ضلمت، والعيال بدأوا
يزهقوا، كريمة كانت بتعيط بهستيريا، وانا كنت مصمم ماحدش يقول لاهلها عشان انا اللي
هخرجها من هنا زي ما جيبتها، لكن مع الوقت، بدأت انا كمان أحس باليأس، وعشان كده استسلمت
أخيرًا لكلامهم وسابوني كلهم مع كريمة وراحوا يقولوا لعم مصباح، قعدت جنب الباب وانا
ببص لها من الفتحة الصغيرة، كانت بتعيط وهي بتقولي...
- انا خايفة.
- ماتخافيش، انا معاكِ ومش هسيبك غير لما تخرجي
من هنا.
- في أصوات غريبة هنا.
- أصوات ايه؟.. انا مش سامع حاجة.
- ماعرفش.. بس انا سامعة صوت حد بيتكلم.
- مافيش حد بيتكلم غيري، ماتركزيش مع أي حاجة وخليكِ
معايا.
- حاضر.
بعد شوية بدأت اسمع
الصوت اللي كانت بتقول عليه، كان في حد بيتكلم، بس كلامه مش واضح ومش قادر افسره، عيطت
كريمة ساعتها وقالت بخوف...
- سامع يا عليوة، الصوت اهو.
- اهدي يا كريمة، مافيش حاجة، اهدي وماتخافيش.
- لا انا خايفة، مين اللي بيتكلم ده؟
- ما ما.. ماعرفش، بس اهدي.
بدأ صوت الكلام يعلى
اكتر ومعاه سمعت صوت خبط، زي مايكون حد بيخبط على باب حديد، ركزت أكتر واكتشفت ان الصوت
جاي من الأوضة اللي فيها كريمة، بصيت بسرعة من الفتحة وانا بقولها...
- بصي حواليكِ كده يا كريمة، شايفة حاجة؟!
بصت يمين وشمال وبعدها
قالت لي برعب...
- انا مش شايفة حاجة، بس حاسة بحد موجود معايا.
- ماتخافيش.. انا جنبك.
كنت مرعوب عليها،
وفي نفس الوقت كنت عاجز ومش قادر اعمل أي حاجة.
بصيت على مدخل المخزن
وانا بقول بيأس "هم اتأخروا كده ليه" خبطت على الباب وانا بنده عليها...
- كريمة، خليكِ معايا، ماتركزيش مع أي حاجة.
- انا.. ايه.. ده انت مين؟؟ الحقني يا عليوة، لااااا.
- كريمة، ياكريمة..
ماردتش عليا المرة
دي، فضلت اخبط على الباب زي المجنون والدموع مغرقة وشي، كنت خاسس بالخوف أو بالعجز
لإني مش عارف اعمل حاجة وانقذها، شوية ووصلوا اهل كريمة، عم مصباح واخواته، سمعت صوته
وهو بينده في المخزن...
- كريمة، عليوة.
- انا هنا يا عم مصباح.
قرب ناحيتي وهو ماسك
الكشاف اللي كان بيستخدمه ايام الغارات، وجه نوره في عينيا وهو بيسألني...
- كريمة فين يا عليوة؟
رديت عليه بصوت مليان
خوف...
- كريمة جوة، ورا الباب ده.
جري على الباب وبدأ
يحاول يفتحه، وصلوا بقيت اخواته وبدأوا يساعدوه، كنت براقبهم وانا مرعوب على كريمة،
مش عارف ايه اللي حصلها، ولا هي شافت ايه؟.. ياترى عايشة ولا ماتت؟.. وبعد ربع ساعة
تقريبًا قدروا يفتحوا الباب، فضلت واقف بره ومادخلتش معاهم، قلبي كان بيدق بسرعة رهيبة،
لحد ما سمعت صوت عم مصباح بيقول بلهفة...
- كريمة هناك اهي، كريمة.
بعد دقايق شوفته
خارج وهو شايلها على دراعه، كانت فاقدة الوعي، مشيت معاهم وروحنا البيت عندهم، دخل
عم مصباح الأوضة ونيمها على السرير، خالتي فتحية جابت بصل ونشادر عشان تفوقها، كنت
واقف جنب السرير بتابعهم وحاسس ان قلبي هيتخلع من مكانه، مش قادر اتخيل إن كريمة مش
هتفوق تاني، الدموع كانت بتنزل غصب عني، وبعد محاولات فاقت كريمة أخيرًا، ضحك عم مصباح
في وشها وهو بيقولها...
- حمدلله على السلامة ياحبيبتي.
بصت لي كريمة وقتها
وابتسمت في وشي، ابتسمت ومسحت دموعي من على خدي، بص لي عم مصباح وقالي بعتاب...
- انتوا ايه اللي وداكوا المخزن ده يا عليوة، مش
احنا قولنا ماحدش يروح هناك؟
- والله يا عمي احنا ماكناش جوة المخزن، احنا كنا
بنلعب برة، بس...
قاطعتني كريمة...
- عليوة ماكنش يعرف اني داخلة المخزن يا بابا، انا
اللي خدت علا ودخلنا من وراه.
بص لها بزعل وقال
لها بحنية...
- طب ياحبيبتي مش احنا قايلين ماتروحيش هناك.
- حقك عليا يا بابا، مش هعمل كده تاني.
قولت لعم مصباح ساعتها...
- طب ياعمي انا هرَوح انا عشان زمان ابويا عرف باللي
حصل وقلقان عليا.
- ماشي يا عليوة واخر مرة هقولهالكوا.. ماتروحوش
هناك تاني، مفهوم؟
- مفهوم، سلام يا كريمة.
ابتسمت وهي بتقولي...
- سلام يا عليوة.
رَوَحت بيتنا وطبعًا
أمي كانت قلقانة عليا، حكيتلها كل اللي حصل، وساعتها زعقت لي جامد ولفت الملاية على
وسطها وقالت لي وهي على الباب...
- انا هروح اطمن على البنية، وانت ادخل نام قبل
ما ابوك يجي، عشان لو رجع وعرف باللي حصل، هيبهدلك، والصبح بقى يعدلهالك ربنا.
- حاضر ياما.
نزلت أمي وانا دخلت
عشان انام زي ماهي قالت، لكن بصراحة ماعرفتش انام يومها، كان شاغلني الصوت اللي سمعته
في المخزن، وكمان اللي شغلني أكتر هو شكل كريمة وهي بتعيط وشكلها وهي مغم عليها، طول
الوقت كنت بحس اني مسؤول عنها، بس أول مرة أحس بالخوف عليها بجد، أول مرة أحس انها
ممكن تضيع مني، بعد شوية سمعت صوت ابويا بيكح في الصالة وبينده على أمي، غمضت عيني
وخبيت وشي بالمخدة ونمت، والصبح على الفطار عملت نفسي تعبان لما أمي دخلت عشان تصحيني،
قولتلها مش هقدر اقوم، فِهمت طبعًا اني بمثل عشان اهرب من ابويا، ابويا اللي بعد ما
نزل قومت بسرعة جريت على السفرة لاني كنت ميت من الجوع، ضِحكِت امي على منظري وهي بتقولي...
- ادي اخرة عمايلك، هتفضل هربان منه كده لحد امتى؟
ماهو مسيره هيقفشك.
- لا هو يومين وهينسى.
ردت على كلامي بسخرية...
- ده حالف يبهدلك، خصوصًا بعد ما الواد عزمي قاله
ان انت اللي اقترحت عليهم يروحوا هناك.
- عزمي قاله كده!.. ماشي يا عزمي، لما اشوفك بس.
- ايه.. ناوي تعمل مصيبة ايه تاني!
- لا ياما مش هعمل حاجة.
- طيب.. انا هطلع أكل الفراخ وانت خلص اكل وهات
طبق الغسيل ده وحصلني.
- حاضر ياما.
خلصت اكل وشيلت الطبق
وطلِعت بيه لأمي السطح، ناولتهولها وبعدها بصيت من ورا السور على بيت كريمة، ماكنش
في حد على السطح عندهم، رجعت بخيبة أمل ووقفت جنب أمي لحد ما فجأة سمعت صوت خالتي فتحية
بتقول...
- صباح الخير يا أم صابر.
- صباح النور يا أم كريمة، عاملة ايه؟.. وكريمة
اخبارها ايه دلوقتي؟
- الحمدلله بخير، وكريمة عال، طالعة ورايا اهي.
جريت على السور وانا
ببص عليها وقولتلها بابتسامة...
- ازيك يا خالتي فتحية؟
بصت لي بعتاب وهي
بتقولي...
- ازيك انت يا عليوة، ينفع كده تاخدهم هناك وتسيب
كريمة تدخل المخزن.
- مش انا والله يا خالتي اللي قولتلهم، الواد عزمي
بيكدب، وبعدين انا كنت خايف عليها والله، وبعدين انا.. انا فضلت معاها وماسيبتهاش لحد
ما عمي مصباح جه وخرجنا.
كملت امي كلامي لما
قالت...
- يلا حصل خير، والحمدلله انها جت سليمة ياختي.
ردت عليها خالة فتحية...
- الحمدلله ربنا سترها، بس انا بقول كده عشان مايروحوش
هناك تاني.
- لا ماهم اتعلموا خلاص ومش هيروحوا هناك تاني،
مش كده يا عليوة؟
- ايوة ياما مش هنروح هناك تاني خالص.
في الوقت ده دخلت
كريمة من باب السطح وهي شايلة اكياس في اديها، راحت ناحية أمها من غير ماتاخد بالها
مني، حطت الأكياس جنب العِشَة وهي بتقول...
- العلف اهو ياما، عايزة حاجة تاني؟
- لا انزلي انتِ تحت وانا هخلص وانزل.
- ماشي.
لفت وشها وساعتها
شافتني، ابتسمت بخجل، حسيت ان روحي ردت فيا من تاني لما شوفت ضحكتها، أمي قطعت اللحظة
دي لما قالتلها...
- ازيك دلوقتي يا كريمة؟
- الحمد لله يا خالتي.
- كريمة.. اياكوا تروحوا المخزن ده تاني، انا نبهت
على عليوة وبنبه عليكِ تاني اهو.
- حاضر يا خالتي.
شاورت لي براسها
قبل ما تخرج من باب السطح، بعدها قولت لامي...
- انا هنزل العب مع العيال في الشارع ياما، عايزة
حاجة؟
- شارع ايه ياوله.. لسه بدري.
سيبتها ونزلت بسرعة
على الشارع، دخلت مدخل البيت بتاع عم مصباح، وجوة لقيت كريمة قاعدة مستنياني عند أول
السلم، قعدت جنبها وانا مبتسم وقولت لها...
- حمدلله على السلامة.
- الله يسلمك.
- انا كنت خايف يحصلك حاجة.
- صحيح يا عليوة؟
- ايوة صحيح، ماهو انتِ لو حصلك حاجة مين اللي هيلعب
معايا.
قلبت وشها وهي بتقول
بزعل...
- هو ده السبب يعني اللي خلاك خايف عليا، لو كده
بقى، لما يحصلي حاجة ابقى العب مع علا.
- علا لعبها رخم، ومابحبهاش.
- يعني انت بتحبني انا؟
ابتسمت بخجل وحاولت
اغير الموضوع، سكتت ثواني وبعدهم سألتها...
- قوليلي، انتِ شوفتي ايه امبارح جوة الأوضة؟
وشها اتغير وكأنها
افتكرت حاجة مرعبة، وردت عليا بخوف...
- بعد ما سمعت الصوت اللي قولتلك عليه، بدأت أحس
بحد بيتحرك ورايا، بعدها لفيت وشوفته، كان ضخم وايديه دي قد كده، ومالوش عينين.
سِكتِت عند النقطة
دي، فسألتها بلهفة...
- وبعدين.. ايه اللي حصل؟
- ماعرفش، انا اول ماشوفت شكله كده، غمضت عيني وصرخت
وبعدها ماحسيتش بحاجة، هو ايه اللي حصل بعد كده؟
- ماحصلش حاجة، عم مصباح جه هو واعمامك، كسروا الباب
ولقوكِي ساعتها مرمية على الأرض، وابوكِ شالك وجابك البيت.
- انا مش هروح هناك تاني.
- ولا انا، الحمدلله انها عدت على خير، واوعي تقولي
لابوكِ أو لأي حد على موضوع البتاع اللي شوفتيه ده.
- لا طبعًا مش هقول لحد.
سمعنا ساعتها صوت
خالتي فتحية بتنده من فوق...
- كريمة، بت يا كريمة.
- امشي انت بسرعة قبل ما أمي تشوفك.
جريت بعد جملتها
دي وطلعت بيتنا بسرعة.
مرت سنين بعد الموضوع
ده وانا وكريمة بنقرب من بعض أكتر، لحد مابقى عندي19 سنة تقريبًا، ووقتها فاتحت ابويا
في الموضوع وقولتله...
- انا عايز اقولك على حاجة يابا.
- قول يا عليوة.
- انا عايز اتجوز كريمة.
- انت بتقول ايه يا وله؟... وانت هتتجوزها بايه
بقى ان شاء الله؟
- انا قصدي لما اتخرج من الجامعة، بس انا يعني عاوزك
تكلم عم مصباح عشان يحجزهالي.
ضحك ابويا ساعتها
ضحكة عالية...
- يحجزهالك!.. فاكرها جزمة اياك، بس مافيش مانع،
انا هكلملك مصباح عليها، المهم تشد حيلك انت بس في دراستك.
رديت عليه بلهفة...
- هشد حيلي والله يابا، بس صحيح، انت هتكلم عمي
مصباح؟
- ايوة والله هكلمه، بس مافيش حاجة هتحصل غير لما
تاخد شهادتك الأول.
- حاضر.
في الوقت ده دخل
أخويا صابر وسأل...
- حاجة ايه دي اللي مش هتحصل غير لما ياخد شهادته؟
- تعالى ياسيدي شوف اخوك الصغير، البيه عايز يتجوز
والكبير لسه مغلبني وياه.
- يتجوز!.. وعايز يتجوز مين بقى ان شاء الله؟
رديت عليه انا...
- كريمة بنت عم مصباح.
وش صابر اتغير لما
قولتله كده، بس يومها انا ماخدتش بالي من حاجة زي دي، قعد وهو مضايق وقالي بارتباك...
- كريمة.. كريمة حلوة وبنت حلال، بس انت مش شايف
انكوا لسه صغيرين على الكلام ده؟
- انا قولت لابويا يفاتح عم مصباح في الموضوع بس،
وهنأجل كل حاجة لحد ما أخلص الجامعة.
- معقول برضه، خلاص كلمهوله يابا، مبروك يا سي عليوة.
- الله يبارك فيك يا صابر، عقبالك يا خويا.
قال ابويا ساعتها
بسخرية...
- والله عجايب، الصغير بيقول للكبير عقبالك، الدنيا
اتشقلب حالها يا ولاد.
رد صابر وقتها بضحكة
خفيفة...
- يا حاج دول هم سنتين بس، يعني هو انا أكبر منه
بعشر سنين.
وخلص الموقف ده لحد
هنا.. وفي 5 يونيو سنة 1967، صحيت الدول العربية كلها على كارثة، كارثة هزت المجتمع
العربي كله، كارثة غيرت خريطة الشرق الأوسط لسنين طويلة، حالة حزن عام صابت البلد،
الناس ماشية بتبص في الأرض، وماحدش فيهم بيكلم التاني.
" لقد قررتُ أن اتنحى تمامًا ونهَائيًا عن
أي منصبٍ رسمي وأي دورٍ سياسي، وأن أعود إلي صفوف الجماهير اؤدي واجبي معها كأي مواطنٍ
آخر"
عبد الناصر كان فاكر
إن الشيلة شيلته لوحده، كان فاكر إن الناس ضده، لكن المصريين دايمًأ قادرين على أصعب
المحن، كنا مهزومين اه، لكننا ماستسلمناش، كان جوانا حزن اه، بس ماتكسرناش.. ده الشعب
طلب منه يكمل وهو وراه، وابويا كان من اول الناس اللي نزلت تطلب من ناصر انه يكمل،
وانه ياخد حقنا من اليهود، كان شايف في ناصر حلم عظيم لازم يكمل.
وفي وسط ده كله حلمي
انا كان بيضيع، الدراسة والحب، كل حاجة كانت بتضيع، بس ماكنش في أي حل ممكن أعمله،
وعشان كده سيبت نفسي للتيار زي حال أغلب الشباب في الفترة دي، بِعِدت شوية عن كريمة،
ووالله مش بمزاجي، ابوها من ساعة الحرب وهو قافل عليها، وكل مايشوفني يقولي...
- يابني روح ذاكرلك كلمتين ولا اتجند في الجيش،
اهو نستفيد منك بأي حاجة بدل ما انت قاعدلنا كده.
كان بيطلع غِله فيا
كل مرة، وعشان كده قولت ابعد عنها فترة لحد الأمور ما تهدى، واللي ماعملتش حسابه في
الوقت ده ان ابويا يموت، كان راجع من الشغل وعمل حادثة ومات، غيابه ساب فراغ كبير،
خصوصًا إن صابر كان اتجند في الجيش، وفجأة لقيت نفسي مسؤول عن البيت، وعن أمي، أمي
اللي حالها اتبدل من بعد موت ابويا، مابقتش بتقلع الأسود خالص، ودايمًا بقت قاعدة بتعيط،
وهنا قررت اسيب الجامعة واتعين بالثانوية في هيئة السكة الحديد، كنت موظف شباك بقطع
تذاكر للركاب، مش الوظيفة اللي حلمت بيها، بس اهو، احسن من مافيش، عدت الايام بسرعة
وانا لسه قلبي متعلق بكريمة، وعشان كده كلمت أمي وقولتلها اني هتقدملها، كان عدى على
موت ابويا سنة بالظبط، فوافقت اه، إنما بصعوبة، دي حتى يومها قالت لي...
- انا وافقت اه.. بس خليك عارف اني مش هقلع الاسود
حتى لو عشان فرحك.
- هو ياريت تقلعيه ياما، بس لو هتكوني مرتاحة كده
خلاص مش مهم، اعملي اللي يريحك.
- ماشي.. لما تروح لمصباح حدد معاه معاد على وقت
نزلة اخوك.
- أكيد ياما، انا ماينفعش اعمل فرحي واخويا الكبير
مش موجود.
- جدع يا عليوة.
روحت لعم مصباح واتفقنا
على كل حاجة، وحددنا معاد الفرح على رجعِة صابر من الجيش، كنت طاير من السعادة وكريمة
هي كمان كانت فرحانة جدَا، كنا بنعد الايام عشان نكون مع بعض، ووصل صابر أخيرًا، وحددنا
معاد الفرح الخميس اللي جاي على طول، كانت كل حاجة جاهزة وتمام، وجِه يوم الخميس والفرح
تم، اخيرًا اتقفل عليا انا وكريمة باب واحد، اخيرًا بقت ملكي للأبد، عدى أول شهر هوا،
كنت عايش في الجنة زي مابيقولوا، بس فجأة ماتت أمي، دخلت عليها الشقة لقيتها نايمة،
ولما حاولت اصحيها ماكانتش بترد، وبعد موت أمي، ماتفضلش غيري انا وكريمة، بس كريمة
فجأة بدأت تصرفاتها تبقى غريبة، مابقتش بتطيق تقرب مني، وكل شوية تزعق وتصرخ وتجري
على الشارع، الموضوع بقى خطير.. خصوصًا اني اخر مرة جيبتها من على السطح وهي بتحاول
ترمي نفسها، امها اقترحت عليا اشوفلها حد بيفهم في الحاجات دي، وفعلًا سمعت كلامها
وجيبت لها واحد معرفة عشان يعالجها، ولما وصل البيت وقعد في الصالون، طلب مني ادخل
اجيب كريمة، سيبته ودخلت الأوضة لكريمة، كانت قاعدة هي وخالتي فتحية، اول ما قولتلها
إن الراجل عايز يشوفها عشان يكشف عليها، اتعفرتت وقامت من مكانها وهي بتصرخ فيا وكانت
عايزة تضربني، امها قامت ومِسكِتها معايا وقعدناها على السرير، ماكنش قدامي حل غير
اني أربطها في السرير، وبعد ماربطتها طلبت من امها تحطلها حاجة على شعرها على ما انده
الراجل، وبعد دقايق رجعت الاوضة وهو معايا، دخل الراجل ووقف جنب السرير وبدأ يقول كلام
مش مفهوم من الكلام بتاعهم ده، بس مع كلامه بدأت كريمة تتنفض وهي بتزمجر، وفجأة نطقت
بصوت كأن راجل اللي بيتكلم وقالت...
- انا مش هسيبها.
رد عليها الراجل
بغضب...
- اخرج من جتتها وإلا هحرقك.
- مش هتقدر تعمل حاجة، انا اللي هدمرك انت وكل اللي
معاك.
- انت معاها من امتى؟.. وجيت لها ليه؟
- انا معاها من ساعة ما دخلت المخزن، كانت لسه عيلة
صغيرة، جميلة وحلوة، حبيتها ومش هسيبها أبدًا، والنطع ده لازم يطلقها.
- ده جوزها على سنة الله ورسوله، انت اللي لازم
تمشي وتسيبها.
في الوقت ده فكت
ايديها من السرير وقامت ناحية الراجل وضربته، حاول معاها، لكن اللي عليها كان أقوى
منه!
خالتي فتحية ساعتها
لطمت وسابت الأوضة وخرجت تجري، وفين وفين على ما قدرت انا والراجل نمسكها ونكتفها تاني،
وبعدها سيبناها وخرجنا بره، كانت خالتي قاعدة في الصالة وقعدنا احنا الاتنين قدامها،
وساعتها الراجل اللي جيبته اتكلم وقال...
- اسمع يا استاذ عليوة، مراتك ملبوسة لبس قوي، الظاهر
كده والله اعلم انها دخلت مكان مهجور زي المخزن اللي بيقول عليه ده.
رديت عليه بسرعة...
- اه.. هي زمان فعلًا اتحبست في أوضة جوة مخزن الانجليز
المهجور.
- ياساتر يارب، اهو جالها من هناك.
لما قولنا كده، سألته
خالتي فتحية...
- طب ماهي زي الفل من يومها، اشمعنا ظهر دلوقتي
يعني؟
- عشان كانت بتاعته لوحده يا حاجة، لكن دلوقتي اتجوزت
استاذ عليوة وبقى حاسس إن في حد بيشاركه فيها.
- يا ندامة!.. يعني هو عايز البت تفضل له هو بس؟
- بالظبط كده، المشكلة دلوقتي انه ممكن يحرضها تهرب
أو تعمل حاجة في نفسها، عشان كده لازم تخلوا بالكوا منها كويس.
- ماتقلقش، انا معاها، انا مش هسيب بنتي.
- لا ماهو انتِ مش هتنفعي ياحاجة، احنا لازم نسيب
جوزها هو اللي يواجهه، انتِ مش هتقدري عليه.
رديت انا عليه...
- انا مستعد أواجه أمه، انا عشان خاطر كريمة اعمل
أي حاجة.
- طب خليني معاك يابني، اهو برضه اساعدك لو حصل
حاجة.
- لا ياخالتي بلاش لايأذيكِي ولا يعمل فيكِي حاجة،
كفاية اللي حصل لكريمة.
ردت بقلة حيلة...
- ماشي يابني.. اللي تشوفه، بس انا برضه مش فاهمة
هو هيطلع منها ولا لا؟
رد الراجل عليها...
- هيطلع، بس هو محتاج شوية شغل لانه من الجن الجامد..
الجامد اوي، عشان كده عايز تحضير وشوية حاجات هجهزها واجي اطلعه ابن الأبالسة ده.
- ماشي، خلي بالك منها والنبي ياعليوة لحد ما اللي
معاها ده يطلع.
- ماتقلقيش يا خالتي، كريمة في عينيا.
ومن بعد القاعدة
دي بدأت اشوف المُر، كل شوية شتيمة وزعيق، ووصلت إنها بتحاول تضربني، ده لدرجة اني
بقيت بسيبلها الأوضة وانام بره في الصالة.
ولما ماعدى اسبوع،
صحيت في يوم لقيت باب الشقة مفتوح، دخلت اجري على الأوضة مالقتهاش، نزلت جري للشارع
وبصيت عليها يمين وشمال، ندهت على خالتي فتحية اللي خرجت من البلكونة بسرعة، واول ما
خرجت سألتها...
- كريمة عندك ياخالتي؟
- وايه اللي هيجيب كريمة عندي بدري أوي كده ياعليوة؟
- انا صحيت مالقتهاش، بنتك سابت البيت وطفشت ياخالتي.
ضربت على صدرها وهي
بتقول...
- يامصيبتي، كريمة طِفشِت.
وبس.. ايام واحنا
بندور عليها ومالهاش أثر، سيبت شغلي وكل اللي ورايا وبقيت قاعد بس عشان أدور عليها،
لحد ما يأست، يأست وقررت اسيب البيت والمنطقة كلها، ما انا خلاص مابقاش ليا حد فيها،
ابويا وأمي وكريمة، كل اللي بحبهم راحوا.
عليوة عبد الصمد
20/ابريل/1972
******
ده كان الكلام اللي
كتبه عليوة في مذكراته، واللي طبعًا كله كدب، عليوة كان بيكتب في مذكراته الحياة اللي
كان نفسه يعيشها، لكن انا هقول الحقيقة كاملة دلوقتي، هقول عشان الناس تعرف مين هو
عليوة الحقيقي.
طبعًا انت بتسأل
نفسك انا مين؟.. هقولك، انا صابر عبد الصمد، ايوة اخو عليوة عبدالصمد، عليوة كان انسان
جشع، طماع، من يوم ما اتولد وهو تفكيره شيطاني.
انا وكريمة كنا بنحب
بعض، وزي أي حد كنت فاكر ان اخويا هو بير اسراري، وعشان كده روحت قولت لعليوة اني بحبها،
حسيته اضايق، بس ماخدتش في بالي وقتها، وبعد كام يوم لقيته خد كريمة من ورايا هو واصحابه
وراحوا المخزن، كنت ساعتها واقف مع ابويا في دكان العطارة بتاعنا، وفجأة لقيت الواد
عزمي داخل الدكان بيجري وهو بيصرخ...
- الحق يا صابر، كريمة دخلت مخزن الانجليز واتحبست
هناك.
رميت اللي في ايدي
وجريت على المخزن، وهناك لقيت عليوة قاعد قدام الباب وبيعيط، أول ماشافني قام وقف وسألني...
- انت ايه اللي جابك؟
- انتوا اللي ايه جابكوا هنا؟.. وفين كريمة؟
- كريمة جوة، ومابتردش، باينها ماتت.
- ماتت!... ابعد عن الباب خليني اخرجها، ابعد.
وقدرت اخرجها بعد
ما طَفِشت الباب بعتلة كانت موجودة على جنب، عليوة ساعتها كان واقف يتفرج عليا، خدتها
وروحتها البيت، وتاني يوم علا قالت لي ان هو اللي اقترح انهم يروحوا هناك، وكمان طلب
منها انها تقفل الباب على كريمة وهو هيخرجها، وفهمها انه مقلب عامله فيها، بس بعد اللي
حصل علا حست ان عليوة كان عايز يأذي كريمة، وانا طبعًا سمعت كلامها وماقولتش لحد، لاني
لما واجهته انكر وقالي بعصبية...
- البت علا دي كدابة، وبعدين انا هعمل كده ليه في
حبيبة اخويا؟
حاولت اصدقه واكدب
كلام علا، وكمان اكدب احساسي. ومرت الايام وخلصت جامعة وساعتها فاتحت ابويا في الموضوع،
وابويا قالي لما اخلص جيشي وارجع، هيكلم ابوها ويخطبهالي، فسكتت وروحت الجيش على أمل
اني ارجع واتجوز كريمة، بس وانا هناك حصل اللي ماكنتش اتوقعه، لما نزلت اجازة عرفت
ان عليوة راح من ورانا كلنا وطلب ايد كريمة من عم مصباح، عم مصباح رد عليه وقتها وقاله
إن كريمة ماينفعش تدخل بيتكوا لأني كنت عاوزها، واول ما كريمة قالت لي كده في جواب..
كنت ناوي انزل أجازة.. بس بعدها بايام قامت الحرب، واهي نار الغريب اهدى من نار القريب،
غدر العدو أهون بكتير من غدر الأخ، ست ايام وخلصت الحرب، الخراب كان حواليا في كل مكان،
لكن الخراب اللي جوايا كان أكبر بكتير، عشان كده قررت اني مش هرجع واني هكمل لحد ما
اجيب حقي، واذا كنت ماعرفتش اخد حقي من اخويا، فانا مش هسيب حقي لعدوي، ماكنتش اعرف
أي حاجة عن اهلي السنين دي كلها، ولا هم كانوا يعرفوا عني حاجة، لحد ما جت اللحظة اللي
استنيتها من زمان، و جالنا الأمر بالعبور، أخيرًا جت الفرصة عشان انتقم، كنت حاسس اني
بنتقم من عليوة وكل اللي زيه، اخيرًا جه الوقت اللي الكلاب هيدفعوا فيه التمن، تمن
الغدر، كان قدامي مشاهد ماقدرتش انساها لست سنين، مشاهد لزمايلي اللي ماتوا هنا على
نفس الأرض، دلوقتي بس هقدر أجيب حقهم، الطلقة اللي كانت بتخرج من سلاحي كان لازم توقع كلب منهم، ماينفعش اضرب
طلقة واحدة على الفاضي، لازم اموت اكبر عدد، لازم اجيب حقي وحق زمايلي وحق البلد كلها،
كنا واحد وكانوا متفرقين، كنا زي القلب الميت، وكان الخوف بيزلزل الأرض من تحت رجليهم،
كنا قادرين نشوف الرعب في عيونهم، وكانوا هم شايفين وحوش ماليها الانتقام والغضب، كنا
بنتقدم من غير رجوع، وكانوا هم بيهربوا.. ساعات عاشوها في جحيم، ساعات مش هينسوها العمر
كله، واخيرًا اترفع العلم ورجعت سينا ورجع معاها حق زمايلي.
وبعد ماحقننا الانتصار
قررت ارجع، كنت نسيت اللي عمله عليوة وقولت اني هفتح معاه صفحة جديدة، بس ماكنتش اعرف
اللي كان مستنيني..
لما رجعت لمنطقتنا
الناس قابلوني بالزهور، احتفلوا بيا زي الابطال، في اللي سألني كنت فين طول السنين
دي، وفي اللي ماهتمش غير بالنصر اللي حقنناه، لكن كل دول ماكنوش فارقين معايا، انا
كنت بدور وسطيهم على ابويا وأمي، وعم مصباح، راحوا فين؟.. نزلت من على الاكتاف اللي
كانت شيلاني، وجريت على بيتنا، طلعت فوق وخبطت على الباب، ماحدش رد، خبطت أكتر، بس
برضه مافيش رد، نزلت الشارع، ودخلت بيت عم مصباح، خبطت على الباب، استنيت شوية لحد
مافتحتلي خالتي فتحية، أول ماشافتني ابتسمت وقربت مني عشان تحضني، بس بعدت فجأة ووشها
اتغير، بعدها سابتني ودخلت جوة، ف دخلت وراها وانا بسألها...
- فين أمي وابويا ياخالتي؟
قعدت على الكنبة
من غير ماترد عليا، بصيت في البيت وانا بسألها...
- وفين كريمة وعم مصباح؟
فضلت ساكتة ومابتردش،
لحد ما لقيت باب أوضة اتفتح وخرج منه عم مصباح، لكنه ماكنش خارج على رجليه، كان خارج
على كرسي بعجل، عم مصباح اتشل!.. امتى وازاي؟ فضلت واقف ابصله لحد ما قرب مني، وساعتها
قالي والدموع في عينيه...
- حمدلله على السلامة يابطل.
قربت منه وبوست راسه
وقولتله...
- ايه اللي عمل فيك كده ياعمي؟
- الزمن.. الزمن مابيسبش حاجة على حالها.
- طب فين ابويا وامي؟
ردت عليا خالتي فتحية
وهي بتعيط...
- ابوك وامك الله يرحمهم.
حسيت إن قلبي اتخلع
مع جملتها، قعدت على الكرسي بهدوء، وبعد ثواني سألت خالتي فتحية...
- ماتوا ازاي؟
- كانوا في الحج، راحوا ومارجعوش.
فضلت ساكت لدقايق
وبعدها سألت عن كريمة...
- طب وكريمة.. كريمة فين يا خالتي؟.. اتجوزت، صح؟
سكتت وماردتش، بصيت
لها باستغراب وعيدت السؤال تاني...
- انتِ مش بتردي عليا ليه؟.. كريمة اتجوزت ولا راحت
فين؟
انهارت في العياط
ولاحظت ان عم مصباح هو كمان بيعيط، ف قربت منه وانا بسأله...
- كريمة حصلها ايه يا عمي؟.. اوعى تقول انها ماتت
هي كمان.
هز راسه بالنفي وقال
بدموع...
- ياريت، على الأقل كنت هبقى عارف مكان قبرها وازوره،
كريمة سابت الحتة كلها وطفشِت.
- طفشت يعني ايه؟!.. وليه تتطفش؟
ماحدش فيهم رد، قربت
من خالتي فتحية وانا بقولها...
- ردي عليا ياخالتي، كريمة طِفشِت ليه؟
- كريمة اتجوزت عليوة اخوك.
اتصدمت من كلامها،
وبصيت لعمي...
- ازاي جوزتهاله وانت عارف ان انا وهي كنا بنحب
بعض؟ انت نفسك كنت رافض تجوزهاله ومنعت دخولها بيتنا، وافقت ليه؟
- بعد النكسة ولما غيبتك طالت، اخوك فضل يزن عليا،
وكل ما كريمة يتقدملها حد أخوك كان يطفشه، وبعد 3 سنين ابوك وامك ماتوا، ساعتها جالي
عليوة وطلبها مني تاني، اخوك ماكنش عليوة اللي انت تعرفه، بقى واحد تاني، واخد كل حاجة
بالبلطجة ولوي الدراع، خصوصًا بعد ما باع دكانة ابوك وبقى تاجر.. الله اعلم تاجر في
ايه؟.. لكن الفلوس جريت في ايده وبقى له اتباعه من البلطجية والمسجلين، ماقدرتش اقف
قصاده، ووافقت، وكريمة حلفت تموت نفسها، لكن في الاخر اتجوزوا، ومافيش شهر وبقينا نسمع
صوته وهو بيضربها وبيسحلها، ولما كنت اقفله كان يزعق فيا ويقولي...
- انت ماعرفتش تربي بنتك يا مصباح، وانا اللي هربيها.
لما قالي كده رديت
عليه وقولتله..
- بنتي متربية احسن منك يا عليوة، ومش محتاجة حد
يربيها.
- وهو في بنت متربية تقول لجوزها انها بتحب اخوه.
- انت عارف من الأول ان كريمة مابتحبكش، وانها بتحب
صابر، وعارف كمان ان الجوازة دي كانت غصب.
- وهو صابر فين عشان تحبه؟.. هي هتفضل تحب في واحد
ميت؟!
- صابر ماماتش، انت هتموت اخوك كمان؟
- ولما هو ماماتش، مارجعش ليه مع اللي انسحبوا!
- ربنا العالم بظروفه، بس صابر هيرجع ان شاء الله.
- ربنا يجيبه بالسلامة بقى، المهم عقل بنتك وقولها
تحترم الراجل اللي أنيها، والا وديني هدبحها قدامك وفي نص الحتة.
- انت بتهددني؟.. طب لو قد كلامك ده اعمله وانا
هدبحك جنبها.
- يلا يا راجل يا خرفان من هنا، عالم بجحة بصحيح،
الراجل فرحان ببنته وهي بتعشق راجل غير جوزها، هي الدنيا جرى فيها ايه ياجدعان!
- حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
وفضل بعدها على نفس
الحال، كل يوم يصبحها بعلقة ويمسيها بعلقة، لحد مافي يوم لقيت الباب بيخبط الساعة
3 الفجر... ولما فتحت الباب لقيته قدامي...
- عليوة!.. ايه اللي جايبك الفجر؟.. لاكون وحشتك
ولا حاجة؟!
- بنتك فين يا مصباح؟
- بنتي فين؟.. هتكون فين يعني؟.. كريمة في بيت جوزها
اللي جاي يسألني عليها في انصاص الليالي.
- بنتك هربت يا مصباح وانا عارف انها جوة، فياريت
تخرجها بالتي هي أحسن، بدل ما اعمل معاك ومعاها حاجات مش هتعجبكوا.
- بنتي مش جوة، ولو كانت جوة، بعد الكلمتين دول
مش هخرجها.
- بشوقك يا مصباح، بشوقك يا اخويا.
سابني ومشي، كنت
متأكد انه عمل فيها حاجة، لكن ماقدرتش اثبت عليه أي حاجة، وفضلت أدور عليها كتير لحد
ما في يوم كنت راجع بالليل، طلعوا عليا شوية بلطجية وكسحوني زي ما انت شايف كده وماعدتش
بقدر ادوس على رجلي من تاني، بس انا اللي قاهرني ان كل ده حصل قدام عينيا وماقدرتش
احميها منه، ولا حتى قدرت اعرف هي فين من ساعتها.
- انا هعرف هي فين ياعم مصباح، هعرف وهجيب حقها
وحقكوا منه، عليوة اتمادى على الاخر، بس جه الوقت اللي هيدفع فيه التمن.
سيبتهم ونزلت، وفي
نص الليل دخل على عليوة الشقة، فتح النور وهو بيطوح وساعتها لقاني في وشه، اتسمر في
مكانه وبعدين ضحك...
- الله، ده انت طلعت عايش بصحيح زي ما بيقولوا.
- طبعًا كان نفسك أكون مُت من زمان.
- وهتفرق معايا في ايه!.. مُت ولا حييت، الاتنين
عندي واحد ياابن امي وابويا.
- انا كنت راجع وفاكرك بني آدم، وقولت هسامحك على
اللي عملته معايا زمان.
ضحك بسخرية وهو بيطوح
قبل ما يسند على ايد الكرسي ويقعد...
- يخرب عقلك يا صابر، الظاهر الحرب خلت نفوخك يفوت،
قال تسامحني قال، تسامحني على ايه؟.. هو انا كنت عملتلك حاجة؟
- انت نسيت انت عملت ايه زمان؟.. نسيت انك طول عمرك
بتحقد عليا وحقدك خلاك عايز تاخد أي حاجة ملكي، اي حاجة حتى لو مش بتحبها.
- انت قصدك على كريمة، كريمة بقت مراتي، هي صحيح
هربت لكنها برضه لسه مراتي، وانا ماسمحلكش تتكلم عنها.
- انت عمرك ماحبيتها، كريمة كانت بالنسبة لك حاجة
من الحاجات اللي شوفتها في ايدي وقررت تاخدها مني.
- ومين قالك بقى اني ماحبتهاش، انا حبيت كريمة من
قبل ما اعرف انك بتحبها.
- اللي بيحب حد ما بيأذيهوش، وانت أذيتها كتير.
- ماهو انت ماجربتش تحب حد أوي وتلاقيه مبسوط مع
غيرك ومش شايفك من أصله.
- لا جربت، جربت احب حاجات كتير وماكنش ليا فيها
نصيب، بس ماعملتش زيك وقولت يا أما تبقى ليا، ياأما ماتبقاش لحد خالص، اللي بيحب يا
عليوة بيتمنى يشوف اللي قدامه مبسوط وفرحان حتى لو مع حد غيره.
- ده كلام انشا ومش حقيقي، الحاجة اللي ماتطوعكش
لازم تاخدها بالقوة، الدنيا دي كده، اسمع من اخوك الصغير اللي شاف في الدنيا اكتر ما
انت شوفت، انت اصلك قضيت وقت طويل في الحرب، وماتعرفش الزمن اتغير ازاي؟
- الزمن عمره ما بيتغير، نفوس الناس هي اللي بتتغير،
احنا اللي بايدينا نختار، يا أما نعيش في جنة، يا أما نعيش في نار.
- ياااه عليك، طيرت التعميرة اللي كنت عاملها، انت
راجع عايز ايه؟.. عايز تديني محاضرة في الاخلاق، ماشي ياسيدي، شكرًا، انتهينا.
- فين كريمة يا عليوة؟
- قولتلك كريمة تبقى مراتي وماتجيبش اسمها على لسانك
تاني، انت اخويا الكبير ومش عايز اعمل معاك الغلط.
- لأخر مرة هسألك، وديت كريمة فين؟
- مالكش فيه، ارتحت، يلا بقى من غير مطرود عشان
عايز انام.
سيبته ونزلت، وعند
البوابة قابلت الظابط وبصيت له بأسف...
- مارضيش يقول برضه.
- تمام، هنتعامل معاه وفي التحقيق هنخليه يعترف.
اقتحم البوليس المكان
وبالتفتيش اكتشفوا كميات كبيرة من المخدرات، الشرطة حاولت تضغط عليه عشان يعترف بمكان
كريمة، لكن ماقدروش يوصلوا معاه لنتيجة، وفي النهاية اتحكم على عليوة بالاعدام بتهمة
الاتجار في المخدرات، وبتهمة قتل واحد مسجل تاني، كان في بينهم عداوة، واتنفذ الحكم.
بعدها بشهر لقيت
الباب بيخبط، فتحت وساعتها لقيت قدامي شخص غريب وشكله مخيف بيسألني...
- انت صابر؟
- ايوة، انت مين؟
- مش مهم انا مين، اخوك قبل ما يتعدم قالي اوصلك
رسالة، بيقولك ان عندك حق، ماينفعش ناخد الحب بالقوة، وان اللي بيحب حد عمره ما بيأذيه،
وبيقولك كمان إن الشر والبلطجة عمرهم قصير مهما طال، وإن الخير والمعاملة الطيبة هم
اللي بيتبقوا، وبيطلب منك تسامحه وتدعيله يمكن ربنا يغفرله، اما بالنسبة لكريمة، فبيقولك
انه عمره مالمسها وهي على ذمته، وانك قدرت تاخدها منه رغم انها كانت بتبات في فرشِته،
ولو عايزها، أحفر تحت بير السلم وساعتها هتلاقي مرادك، سلاموا عليكوا.
اول ما الراجل ده
مشي جريت على بيت عم مصباح، قولتله على اللي الراجل ده قاله، ف طلب مني اخده البيت
عندي، خدته هناك وفضل بيتفرج عليا هو وخالتي فتحية بلهفة وانا بحفر، لحد ما في الاخر
لقيت بقايا لكريمة وللبسها مدفونين زي ما عليوة قال، صوتت خالتي وقتها، اما عم مصباح
فانهار في العياط، وانا قعدت جنب كريمة وحضنت اللي باقي من ريحتها، وبعد ما بلغنا البوليس
وخدنا اذن الدفن، دفناها في التُرب بتاعتنا وبقينا نروح نزورها كل يوم، ومع الايام
مات عم مصباح وبعدها بفترة حصلته خالتي فتحية، وماتبقاش من ريحة كريمة غير صور كانت
بتجمعنا زمان واحنا صغيرين، اما انا.. ف انا اتجوزت بعدها وخلفت كريمة ومصباح، وبالنسبة
للمذكرة دي، فانا ماكنتش ناوي اكتب عن اللي حصل، لكني لما كنت بشيل حاجة عليوة، لقيته
كاتب الكلام اللي في الأول، فقولت اني لازم اكتب الحقيقة كلها عشان لو في يوم من الأيام
وقعت في ايد حد، يكون فاهم اللي حصل ومايتضحكش عليه ويشوف المجرم ضحية... عليوة ماكنش
بلطجي وبس.. عليوة كان مريض ومجنون وكان نفسه يعيش حياة غير حياته.. حياة زي اللي كتبها
في أول المُذكرات..
صابر عبد الصمد
5مايو.. 1977
******
قفلت المذكرة بعد
ما خِلصِت الحكاية، الحكاية اللي عدى عليها أكتر من خمسين سنة وحاسة انها بتحصل كل
يوم، كل يوم الصراع ده بينتهي في حكاية ويبدأ في التانية، كام عليوة عايش وسطينا بياخد
كل اللي نفسه فيه بالبلطجة والعافية، وحتى الحب بياخده بالقوة، وكمان كام كريمة عايشة
بينا مجبورة على حياتها من غير ما نحس بيها ولا بوجعها، كام كريمة مش قادرة تاخد حريتها
ويا أما تتحمل، يا أما تموت، وكمان كام مصباح في المجتمع مغلوب على أمره ومستسلم قدام
بلطجة عليوة وجبروته.
وفي النهاية، الصراع
بين الخير والشر صراع أبدي، قائم إلى أن تقوم الساعة، وكل انسان جواه الاتنين وهو اللي
بايده يختار هيكون انهي فيهم، الخير ولا الشر، الحق ولا الباطل... الحياة طريقين وانت
اللي بتختار.. طب وانا مين؟.. انا نجلاء صباح صابر عبد الصمد.. ودي كانت مُذكرات جدي
واخوه.