
بقلم الكاتب: شادي إسماعيل
- تسنيم.. ياتسنيم.
- ايوة يا بابي.
- تعالي هنا يا حبيبتي، ماتروحيش بعيد.
- ماتسيبها يا رشدي هو في غيرنا هنا.
- ماهو عشان مافيش غيرنا هنا يا سلوى لازم تفضل جنبنا، خلي عينك عليها على ما اخلص الفردة دي عشان نتكل على الله ونكمل طريقنا.
- ماتقلقش وخلص انت بس عشان الجو حر.
- ما انا شغال اهو يا سلوى هعمل ايه تاني.
بعد عشر دقايق قومت حطيت الفردة البايظة في الشنطة وبعدها رجِعت خدت الكوريك والمفك وحطيتهم فوقيها، نفضت ايدي من التراب ومسحتها بالفوطة وركبت وانا مبتسم وبقول لسلوى مراتي...
- ياه.. ربنا سترها معانا، لولا اني صلحت الاستبن عند الواد شمبر قبل ما نتحرك، كان زمانا لايصين دلوقتي.
- طول عمرك شاطر ياحبيبي.. يلا بقى نتحرك عشان اتأخرنا.
- ابتسمت وانا ببص في المرايا اللي قدامي وبقول لتسنيم...
- انتِ نمتي يا تسنيم.
ماكنتش شايفها في المرايا، لفيت وشي ورا وساعتها لقيت الكنبة فاضية، ف سالت سلوى بعصبية...
- البت فين.. فين تسنيم؟
- تتـ...
- انتِ لسه هتهتهي!.. انا مش قولتلك عينيكي ماتتشالش من عليها.
نزلت جري من العربية وانا ببص عليها يمين وشمال، ماكنتش شايفها، دخلت دورت في الصحرا اللي على جنب الطريق، لكن برضه مالهاش أثر، سلوى نزلت من العربية وهي بتعيط وبتنده عليها...
- تسنيم.. ياتسنيم.. انتِ فين ياحبيبتي.
قربت منها وانا بزعق فيها...
- البت لو جرالها حاجة انا مش هرحمك.
عيطت وحطت وشها بين كفوفها، دَخَلت جوة الصحرا وفضِلت ماشي كتير وانا بتلفت حواليا على أمل اني الاقيها، لكن للأسف مافيش فايدة، الشمس كانت بدأت تغيب لما كنت راجع ناحية العربية، سلوى جريت عليا وهي بتسألني بلهفة...
- البت فين؟.. تسنيم فين؟
ماحسيتش بنفسي غير وانا بديها بالقلم وبشدها على العربية.
******
(صوت رياح قوية)
- يابني الجو رصاص، ماتخش تنام جوة للصبح.
- مش مستاهلة يا ابو عمو، الكارافان هناك اهه، خمس دقايق واوصل، خش انت عشان البرد.
- ماشي يا اخويا تصبح على خير.
- وانت من اهل الخير يا جدع.
سيبت بسطاوي ولفحت الشال على رقبتي، وانا بكح كحة جامدة من أثر المعسل اللي بقالي خمس ساعات بشربه انا وهو، وبعد كده دندنت مقطع من الموال اللي كان شغال قبل ما قوم " فضلت أقول آه وأبكى بالدموع أيام.. ومشيت بلا وعي ما عملتش حساب الأيام.. وآدينى ماشى وباتقلب مع الأيام"
وفي وسط ما انا بدندن سمعت صوت صِريخ، وقفت في مكاني وحاولت اسمع الصوت مرة تانية، لكني ماكنتش قادر احدد غير صوت صَفِير الريح، اتحركت وكملت مشي للكارافان، وبعد خطوتين سمعت الصوت من تاني، المرة دي كان صوت صِريخ أعلى، وقفت وبصيت حواليا، وفي الاخر قولت لفنسي "ارجع الكارافان ياواد دي باينها ليلة غابرة" مديت خطواتي عشان اوصل أسرع، كنت شايف الكارافان من مكاني، بدأت اجري اسرع بس فجأة شوفت نور الكارافان نَور ولمحت خيال رايح جاي عند الشباك، اتخشبت في مكاني، كنت عمال ابص عليه وهو بيتحرك، وفجأة لقيت حاجة بتشد الجلابية بتاعتي، بصيت جنبي، مالقيتش حاجة، بصيت لتحت لقيت طفل صغير ابتسم وقالي...
- عمو.. عمو.. انا بردان.
في اللحظة دي أغم عليا.
******
- يا مروان بيه كل حاجة هتبقى تمام، انا مش عايز سعادتك تقلق خالص، إن شاء الله الفيلا هتكون جاهزة خلال ايام.. حاضر عينيا.... حاضر.. حاضر.. مع السلامة.. سلام.
قفلت مع مروان وبصيت للي واقف قدامي وقولتله...
- ايه يا قدري الراجل السِمِح ده؟
- مروان بيه ديه يتحط على الجرح يطيب.
- اه والله، بس اني مستغرب الصنايعية اللي قبلينا ماخلصوش الفيلا وسلمهالوا ليه؟!.. حد يبقى معاه زبون مهاود زي مروان بيه ويسيبه؟!
- هاه، لا ماهم اصلهم كانوا قُلالات الأصل، ده حتى اني اللي جايبلهم المصلحة، مشيوا من غير ما يقولوا لي.
- ياستار.. هو في ناس بالندالة دي.. فين تقدير الرجالة لبعضيها.
- هنقول ايه بقى، خيرًا تعمل شرًا تلقى، المهم يا ابو خال هتسلمني الفيلا امتى؟!.. اني مش عايزك تقصر رقبتي مع مروان بيه.
- ماعاش ولا كان اللي يقصر رقبتك يا راجل يا طيب، بص هقولك.. اني هندلى البلد اجيب الواد عواد ابني وكام نفر اكده ونعاود نشتغلوا اللي باقي فيها على السريع، يعني قول حسبة اسبوع كده واكون مسلمهالك إن شاء الله.
- هيه على خيرة الله.. يلا بينا بقى قبل ما العتمة تحل.
- يلا بينا.
روحت جيبت عواد ابني ولميت اربع انفار من شباب البلد، وهم "مغاوري، سلمان، عرابي، عبحميد" شباب في التلاتين، من سن عواد ابني اكده، قولتلهم عندنا مصلحة في مصر اسبوع في السريع وراجعين، يعني مش هنتأخر، وكمان الراجل صاحب المصلحة هيدينا 3 اضعاف يومياتنا، بس اهم شرط عنده نخلص الفيلا في الوقت المطلوب، العيال كانوا طايرين من الفرحة وقالوا لي ياريت الراجل ده يشغلنا معاه على طول، ضحكت على كلامهم وقولتلهم إنها بتبقى ارزاق، مش كل الشغلانات إكده.
ووصلنا الفيلا تاني يوم حوالي الساعة 11 بالليل، الدنيا كانت ضلمة ومافيش غير عمود واحد والع قدام باب الفيلا وكان النور فيه بيرعش، فتحت بالمفتاح اللي ادهوني قدري قبل ما اسافر البلد، سميت الله ودخلت والخمس شباب في ضهري، وفي وسط السكة للباب لقيت سلمان بيقولي...
- ياه ياعم عبـرازق!.. هو في ناس عايشة اكده.
- ايه يا والا، انت جاي تحسد الناس على رزقهم ولا ايه؟!
- مش قصدي احسد والله ياسطى، بس اني اصلي اول مرة اشوف بيت واسع بالشكل ده.
أكد عرابي على كلامه وقال...
- عنده حق يا عم عبـرازق.. البيت واسع أوي.. وايه اللي هناك ده كمان.. ديه عندهم ملعب.
رديت عليه وانا بقوله...
- ملعب ايه يا طِحِش انت، ديه جنينة الفيلا.. الله يخرب بيتكوا انتوا هتفضحونا ولا ايه؟!.
قالي الواد عواد ساعتها...
- انت لسه شوفت حاجة يابا، دول فاضحينا في البلد مش هيفضحونا هنا، العيال ديه اصلها جهلة وعمرهم ماشافوا دُنيا.
رد عليه عبحميد...
- يا سلام عليك يا متعلِم يامتنور انت.
رديت عليه اني...
- ايوة طبعًا متعلم ومتنور، هو انت فاكره جاهل زيك ياوله.. ديه بكرة يبقى احسن مقاول في الدنيا بدماغه وعلامُه.
ضحكوا كلهم وهم بيقولوا...
- ربنا يفرحك بيه ياعم عبـرازق.
- ربنا يخليكوا ويفرحني بيكوا انتوا كمان يا ولاد.. يلا بقى عشان ندخل جوة ننام عشان هنصحى بدري بالمشيئة نبدأ شغل.
دخلنا جوة الفيلا وحطينا العِدة بتاعتنا في الصالة اللي كانت في وشنا أول ما فتحنا الباب، بعدها بصيت حواليا لقيت على يميني أوضة صغيرة، وعلى شمالي في اخر الصالة أرج بيدخل على مطبخ قدامه حمام، دخلت الأوضة اللي على يميني وبصيت فيها، كانت بتطل على الجنينة وفيها شباكين صغيرين من الشبابيك الأرضي دي، عجبتني الأوضة وعشان كده قولت للعيال...
- احنا هنام هنا.. يلا هاتوا الفرش والبطاطين عشان نفرش الأرض وننام.
خرجوا جابوا الفرش، وبعد ما فرشنا نمنا كل واحد على بطانيته، كنا نايمين جنب بعض بنفس رصة عنابر المستشفيات بس من غير سراير.. على الأرض، عبحميد كان نايم أول واحد ناحية الحيطة اللي جنب الباب، وبعده كان نايم عرابي، وانا جار عرابي، وفي ضهري عواد وسلمان، ربع ساعة والعيال كلها راحت في النوم ومافضلش غيري، القمر وقتها كان ضوءه ضارب في الأوضة ومنورها، ماعرفش ليه قلبي كان مقبوض ومش عارف انام، شوية وقومت وقفت قدام الشباك وولعت سيجارة، الجنينة كانت قدامي والقمر منورها، كلمت نفسي وقتها وقولت "ياه ياعبـرازق لو ربنا يكرمك ويفتح عليك وتشتري فيلا زي دي.. مش هتحتاج حاجة من الدنيا تاني، كفاية توقف وقفة زي دي وقدامك البراح ده كله، والواد عواد يتجوز ويجيب عيال يملوا الجنينة دي كلها ويلعبوا فيها وانت تقعد وسطيهم، وهم بيتنططوا حواليك" في الوقت ده لمحت أربع أطفال بيجروا في الجنينة قدامي وبيلعبوا كورة، كانوا باينين على ضوء القمر زي خيالات، وشوشهم مش باينة، بصيت عليهم وضحكت، وكملت كلام في سري وقولت "اربع عيال، جدع ياض يا عواد، أربعة برضه عزوة، اهم يبقوا سند في ضهر بعض، واني بقى اقعد هناك ع الدكة دي وبعد ما يخلصوا لعب يجوا واحكيلهم حكاية من حكايتي" في اللحظة دي لمحت الأربعة شالوا عينيهم من على الكورة وكلهم مرة واحدة بصوا لي، عينيهم كانت بتلمع ومليانة شر، وقتها بدأت افوق وأركز انها مش خيالات في دماغي.. لا، دول الأربعة موجودين بحق وحقيق، بصوا لي شوية وبعدين لقيتهم بصوا لبعض وبدأوا يمشوا ناحيتي، كنت واقف ببص عليهم وهم بيقربوا، بس فجأة بدأت اسمع صوت ضحكاتهم وكمان صوتهم وهم بيتكلموا...
- عمو.. خايف مننا.
- مش نفسك في اربع ولاد.
- انا حفيدك يا جدو.
- احكيلي حكاية.
كننت هموت من الرعب، ومرة واحدة حسيت بحد بيشدني من بنطلوني، بصيت تحت لقيت طفل صغير ماسك بنطلوني وبيقولي...
- جدو جدو.. انا بردان.
******
ضربتها بالقلم وخدتها ناحية العربية وزقتها في الكرسي ولفيت ركبت في الكرسي بتاعي، صرخت فيا وقتها...
- انت رايح فين.. احنا مش هنمشي قبل ما نلاقي تسنيم.
كنت بسمعها وانا بدور العربية وبتحرك، لكنها مابطلتش صريخ...
- انا عايزة بنتي.. مش همشي من غيرها، اوقف بقولك.. قولتلك اوقف.
دوست فرامل على الاخر لدرجة ان وشها اتخبط في التابلوه واتعورت، لكنها ماهتمتش ونزلت من العربية، نزلت وراها وانا بصرخ فيها...
- انتِ راحة فين؟
- راحة اشوف بنتي.
- بنتك!.. وهو مين اللي ضيع بنتك!، مش انتِ اللي ضيعتيها.. جاية تدوري عليها بعد ماضاعت.
- انت ازاي كده!.. ازاي مش حاسس ان بنتك ضاعت وكل اللي فارق معاك انك مش السبب في ضياعها.
- لا طبعًا فارق معايا، بس اعمل ايه؟.. تسنيم مابقاش ليها أثر ومافيش حل غير اني ابلغ البوليس وهو اللي يدور عليها.
- روح انت بلغ البوليس، لكن انا مش همشي واسيب بنتي.
سابتني بعدها ومشيت وهي بترجع للمكان اللي تاهت فيه تسنيم، بصيت ناحية العربية ورجعت بصيت ناحيتها، مشيت ناحية العربية وبعدين رجعت بضهري ووقفت جنب سلوى وقولتلها...
- اركبي.
بصت لي لثواني وبعدين فتحت الباب وركبت، ولما وصلنا للمكان كانت الدنيا ضلمت، فتحت التابلوه وخدت كشاف صغير ببقى حاطة احتياطي عشان لو العربية عطلت في مكان ضلمة ولا حاجة، ونزلنا من العربية، مشينا جوة الصحرا على نور الكشاف، مشينا كتير جدًا، تقريبًا 2 كيلو، كنا بننده في كل مكان لكننا ماكناش بنسمع غير صدى صوتنا، وقفت وقولت لسلوى...
- يلا بينا نرجع.
- لا انا مش همشي غير لما الاقي تسنيم، انا حاسة بوجودها.. تسنيم هنا يا رشدي.
- يلا يا سلوى مالوش لازمة اللي بنعمله ده.. احنا هنبلغ البوليس وهم هيدوروا بمعرفتهم.
- بقولك مش همشي من غير بنتي.
- يلا سلوي بقولك.
شدتها من دراعها ومشيت بيها ناحية طريق الرجوع، لكنها فلتت ايدها من ايدي بعنف وقالت لي...
- ارجع انت.. انا مش هرجع، انا حاسة بتسنيم.
- يا سلوي...
شاورت لي اسكت وهي بتهمس...
- تسنيم.. انا سامعه صوتها.
- فين؟
لفت حوالين نفسها وبعد كده سمعتها بتقول...
- انتِ فين ياحبيبتي.. ايوة سامعاكِ.
- انتِ بتكلمي مين يا سلوى؟
- ششششش، مين مازن يا تسنيم...... لا ياحبيبتي ماتروحيش مع حد ماتعرفيهوش.
- انتِ اتجننتي يا سلوى ولا ايه؟
- اسكت بقى يا رشدي خليني اتكلم معاها.. معاكِ يا حبيبتي.. طب قوليلي مكانك فين وانا هاجي اخدك.. فين.. طيب انا جايالك.. رشدي.. يارشدي.
- ايوة يا سلوى.
- تسنيم بتقول انها ورا التل اللي هناك ده.
- انا مش مصدق اللي انتِ بتعمليه ده، بس ماشي، خليني معاكِ للأخر.
مشيت وراها وهي بتتصنت عشان تسمع صوت تسنيم اللي كانت بحسب كلامها بتدِلِهَا على طريقها، وأول ما وصلنا للتل لقيتها بتقولي...
- تسنيم بتقول انها ورا التل ده.
قولتلها بسخرية ونفاذ صبر...
- طب ما تقوليلها تيجي.
سكتت شوية وبعدين سمعتها بتقول...
- قوليلهم ان بابا بيحبك، وانه بيخاف عليكِ جدًا.
- هي بتقولك ايه؟
- بتقول انها مش هتيجي وانت موجود لانهم عايزين يقتلوك لانك بتكرهها.
- ايه التخريف ده!!!
في اللحظة دي لقيت سلوى ابتسمت، بصيت لها باستغراب، وقبل ما اتكلم حسيت بحد بيشد بنطلوني، بصيت لتحت لقيت طفل بيقولي...
- عمو عمو.. انا بردان.
******
ماعرفش اغم عليا قد ايه، بس صحيت على الشمس بتلفح وشي والرمل بيقرِص في جسمي، بصيت حواليا يمين وشمال مالقتش حد، حطيت ايدي على راسي من الصداع، وساعتها شوفت الكارافان وافتكرت اللي حُصل، كنت خايف اقرب لكني قولت لنفسي "عيب يا عبـهادي، هتخاف من شوية عيال زي دول، هم صحيح عفاريت بس دول عيال برضك، اجمد يا سبع الصعيد، يا مُرك لو أمك شافتك إكده، والله مش باعيد اتقُصِلك شنبك وتمرمغه في الوحل، وتخلي العيال يزفوك ويقولوا عبـهادي بيخاف من ضله ياولاد.. شوفوا خيبته وهبله.. ياولاد " بعد الكلمتين دول صلبت طولي ومشيت ناحية الكارافان، كنت حاسس بغِل ناحية العيال دي وحلِفت إن اللي هيعاود فيهم هبهدله، صحيح مش عارف هبهدله كيف بس ده اللي كان في راسي وقتها، دخلت الكارافان غيرت هدومي مكان العفرة والرملة واستحميت، وبعد ما استحميت خرجت لقيت ورقة مكتوب فيها كلام، فضِلت ابص لها وبصيت في الكارافان يمين وشمال وقولت بصوت عالي "سايبين لي ورقة!.. انا مابعرفش اقرا يا بجر، الراجل فيكم يطلع لي اهنه" قولت الكلمتين دول ودخلت نمت، ماعرفش نمت قد ايه؟.. لكني نمت كتير.. ولما صحيت لقيت ورقة مرسوم فيها الكارافان بس كان محروق وقدامه واحد بيولع، أكيد قاصدينني اني، الدم غلي في عروقي وقولت في عقلي "مادام رسمولي الورقة دي يبقي رسالتي وصلت وعرفوا اني مابعرفش اقرا" وعشان اكده زعقت تاني...
- والله ياولد الفرطوس اللي هلمحه فيكم هقتِلَه.
"انت بتقول ايه عبـهادي ماهم ميتين اصلًا، انت بتكلم نفسك" وفجأة واني بتحدت مع روحي لمبة الكارافان لقيتها بترعش، ماكدبش عليك خوفت واتلفتت حواليا، وساعتها لمحت واحد فيهم واقف وفي يده شمعة، ابتسملي ابتسامة صفرا وقالي...
- انت مش بتحبنا ليه ياعمو؟
- انت مين ياض؟
- انا فارس.
في الوقت ده سمعت صوت ورايا...
- عمو عبد الهادي.
اتلفِت ورايا لقيت واحد تاني منيهم واقف وفي يده شمعة هو التاني، وده قالي ببرود...
- انت عارف ان احنا هنحرقك.. بس مش دلوقتي.
جريت عليه بس حُصلت حاجة غريبة، انا عديت منيه، وبعدها سمعت صوته بيضحك ضحكة عالية وبيقولي...
- مش هتعرف تمسكني.. عشان انا أصلًا ميت.
في الوقت ده حسيت اني هموت خلاص، بس لقتني بقوله...
- هات ياحبيبي الشمعة دي لتحرقك.
- لا مش هتحرقني وانا اللي هحرقك بها.
- ياحبيبي بلاش لعب العيال ديه، وبعدين اني عملتكم ايه عشان تموتوني؟
- انت قولت انك هتقطعنا لو لمحت حد فينا.. واديك لمحتنا بس احنا اللي هنحرقك.
مالقيتش قدامي غير اني اخرج جري من الكارافان، وواني خارج سمعت صوت ضحكتهم عالي، ومن غير ما احس جريت على كارافان بسطاوي.
******
اول ما بصيت للطفل، اتسمرت في مكاني، ماكنتش عارف اتحرك، بصيت عليه وبعدين بصيت على الجنينة لقيت الأربعة بيقربوا بسرعة، وصوتهم لسه بيرن في وداني، حسيت اني اتلجمت في مكاني، الطفل كان لسه بيشدني من بنطلوني ومابيقولش غير جملة واحدة...
- جدو جدو.. انا بردان.
الأطفال الأربعة بدأوا يقربوا وبينهم وبين الشباك متر، الطفل بيشد في بنطلوني، كنت خلاص قلبي هيوقف، لكن فجأة ظهر قدامي على الشباك خيال طويل، ماكنتش شايف مين اللي واقف، وقتها الطفل سابني واختفى والاربعة كانوا واقفين وبيبصوا للخيال بغضب، بعدها اختفوا هم كمان، واول ما اختفوا لف الخيال وبص لي، كانت ست جميلة جدًا ابتسمت في وشي وقالتلي "ماتخافش يا عبد الرازق.. ماحدش فيهم هيعملك حاجة" هزيت دماغي برعب في اشارة اني مصدقها، سابتني وراحت ناحية الجنينة، ومن الصدمة لساني اتعقد وتفكيري اتشل لدرجة اني ماصحتش حد من العيال، وكل اللي عملته اني دخلت فرشتي ونمت، ماكنتش عارف انام طبعًا، بس كنت بحاول، لفيت وشي عكس الشباك وحطيت الغطا على راسي عشان ماشوفش أي حاجة، وبعد ربع ساعة سمعتهم بيغنوا بصوت مرعب "شدوا الملايات واتغطوا وناموا.. اللي يغمض هيشوف في منامه.. باب جنة أحلامه قدامه.. وقصور فضة ومرجان وياقوت.. توت توت توت توت تتو تتو تتو تتو توت"
كانت الست هي اللي بتغني والاطفال بيرددوا وراها بطريقة مرعبة "توت توت توت توت تتو تتو تتو تتو توت" رفعت راسي ببطء من تحت الغطا وبصيت ناحية باب الأوضة، ماكنش في حد، شوية والصوت بدأ يبقى أوضح، في اللحظة دي سمعت دوشة حواليا وبعدين سمعت عواد وهو بينده...
- يابا.. يابا.
اطمنت انه صحي وقومت من تحت الغطا، لقيتهم كلهم صاحين وقاعدين كل واحد على فرشته، بصيتلهم باستغراب وسألتهم...
- في ايه يا رجالة؟
رد عليا عواد...
- في حد بيغني وصوت اطفال والمفروض ان مافيش حد في الفيلا غيرنا.
فكرت في عقلي وقولت "الشباب كمان سامعين زيي، ده كده الموضوع خطير" وقبل ما اتكلم سمعنا الصوت تاني والمرة دي كان أوضح ومرعب أكتر، وكأن اللي بيغني قاصد معني الكلمات بالظبط، عرابي بدأ يتنفض ويقولي...
- في ايه ياعم عبـرازق مين اللي بيغنوا دول؟
ماكنتش عارف ارد عليه بايه، وساعتها اتكلم سلمان وقال...
- المكان ده باينه مسكون.
رد عليه مغاوري بتريقة...
- باينه!.. ده المكان ملبِش ع الأخر.. بقولك ايه ياعم عبـرازق، اني دلوقت عرفت ليه الراجل ده دافع اليومية تلاتة، مافيش حد بيقدر يقعد في المخروبة دي، واحنا كمان هنمشي الصبح.
بص لي عواد وقالي...
- ايوة يابا احنا لازم نمشي الصبح.
- الليلة دي بس تعدي على خير والصبح يحلها ربنا يارجالة.
ده كان ردي عليهم، عدى وقت والصوت اختفى ومارجعش تاني، بصيت حواليا وقولتلهم..
- شكلهم نعِسوا، يلا انتوا كمان انعسوا.
كل واحد فيهم اتكلفت في بطانيته وحاول ينام حتى انا حاولت انام، لكن النهار طلع وماحدش فينا جاله نوم، ومع طلعِة النهار لقيتهم كلهم عايزين يروحوا، لكني قولتلهم إننا هنقعد ليلة كمان، ولو حصل حاجة تانية نبقى نمشي، ماكنوش مقتنعين لحد ما فكرتهم بالفلوس الكتير اللي هياخدوها، فسكتوا، بعدها وزعت الشغل عليهم، كل واحد على حسب شغلانته، مغاوري حداد وعشان كده طلعته يعمل تربزين السلم اللي بيطلع على الدور التاني، وعواد نجار، خليته يظبط أي نجارة ناقصة في الفيلا، اما سلمان وعرابي فكانوا نقاشين وطلبت منهم يغيروا الوان الحيطان في الصالة زي ماطلب مروان بيه، لانه بيقول إن المدام ماعجبتهاش الالوان اللي هو عملها، اما عبحميد فطلبت منه يخلص شغل الكهربا اللي في الفيلا كلها، وبعد كده سيبتهم وخرجت وقفت في الجنينة، المنظر الصبح مختلف تمامًا عن بالليل، صحيح الجو شتا بس الشمس كانت طالعة على بسيط والجو كان صافي، قعدت على دكة صغيرة موجودة في الجنينة وولعت سيجارة وخدتني الجلالة، طلعت راديو جيب صغير باخده معايا دايمًا الشغل، واول ما شغلته كان عليه اغنية لفيروز، وفي وسط ما كنت سرحان في الاغنية وبدندن معاها، لمحت في البلكونة فوق حد بيشارولي، كانت عيلة صغيرة، بصت لي وابتسمت ودخلِت جوة، حسيت بخوف رهيب، بس بعد ما دخلِت حاولت اطمن نفسي واهدى، ولحد بعد العصر مافيش حاجة تانية حصلت، خدت بعضي وروحت عشان اجيب الغدا، ولما رجعت كانت الساعة خمسة تقريبًا والليل بدأ يليل، دخلت جوة الفيلا وحطيت الأكل في الأوضة وبعدها خرجت الصالة تاني بصيت على الشباب عملوا ايه، كانوا الرجالة سلمان وعرابي خلصوا دهان نص الصالة، وعواد قالي انه خلص كل الشغل اللي في الدور ده لان ماكنش فيه نجارة كتير، ومش فاضل بس غير الدور اللي فوق وهيطلع يبدأ فيه بعد الغدا، اما عبـحميد فكان خلص كهربة الدور ده وكهربة الجنينة، وكده هيبقى في نور بالليل ودي حاجة طمنتني جدًا، ندهت على مغاوري ولما نزل قالي انه فاضل كام بنطة لحام ويبقى خلص التربزين، لمتهم كلهم عشان نتغدا، وبعد الغدا كل واحد فيهم رجع شغله تاني، وماكنش شغال في الدور معايا غير عرابي وسلمان، اما الـ3 شباب فكانوا شغالين في الدور اللي فوق، ووقتها كنت قاعد مع الرجالة تحت وهم شغالين، وفجأة النور قطع.
******
اول ما شوفت الطفل حاولت افك ايده اللي ماسكني بيها وطلعت اجري بأقصى سرعتي، بس وانا بجري كنت سامع صوت ضحكتهم في وداني، كان صوت أطفال كتير، فضِلت أجري لحد ما وصلت للعربية، فتحتها بسرعة ودورت ومشيت، وفجأة الدنيا بدأت تمطر، شغلت المساحات وكملت طريقي وطبعًا ماوقفتش غير لما بقيت في العمار، خدت نفسي وبدأت أفكر، وبعد تفكير مادامش كتير اتوجهت لأقرب قسم شرطة وقدمت بلاغ وحكيت فيه كل اللي حصل، لكن ماحدش صدقني، لكن بالرغم من كده في قوة طلعت معايا ومشطت المنطقة لساعات بس بدون نتيجة.. سلوى وتسنيم اختفوا.. اختفوا بلا رجعة، انا الوحيد اللي عارف ان في ناس خدوهم لكن ماحدش بيصدقني.
عدت ايام بعد اختفائهم والكوابيس مابتفارقنيش، دايمًا بشوف سلوى وتسنيم واقفين في المكان اللي سيبتهم فيه والاتنين بيضحكوا ضحكات مرعبة، بعدها بيخرج من ورا التل أربع اطفال وبيقربوا مني، عينيهم بتلمع ومليانة شر وواحد منهم بيقولي...
- ماتخافش ياعمو احنا هنموتك بس.
والتاني بيقول...
- مش هتحس بحاجة.
اما التالت فبيبتسم ابتسامة مرعبة...
- لو ماكنتش جريت ماكنتش مُتت.
والرابع بقى بيفضل يبص لي وهو بيميل براسه ناحية اليمين للاخر وبعدين يرجع يميل براسه ناحية الشمال للاخر وبعدها بيهمسلي...
- انت ميت.
ومع نهاية الكابوس كنت بقوم مفزوع، والغريب اني كل مرة بحس ان في حد معايا في الأوضة، لحد ما اتأكدت النهاردة لما صحيت مفزوع كالعادة ولاقيته واقف في الركن جنب الشماعة، كان واقف بيبص لي من غير ولا حركة، كان الطفل اللي بشوفه في الحلم وبيميل براسه، خرجت اجري من الأوضة ومن الشقة كلها.
******
قعد معايا ليلتها وحكالي كل اللي بحكهولك دوت، ويمكن قالي حاجات مافكيرهاش، العمر بقى وحكم السن، الكلام ده فات عليه يجي 20 سنة وأكتر، ليلتها عبـهادي ماكنش هو عبـهادي صاحبي اللي اعرفه، كان متبدَل كيف اللي عليه تار، وكن فيه واحد واقف بره الكارافان ماسك بندقة لجل ماياخد روحه، نفسه تقيل وخطوته بطيئة، حسيت انه هيموت من الخوف قبل ما العيال دول يقتلوه، حتى حجر المعسل ماكنش لادد عليه، ليلتها الشيخ احمد برين كان بيقول في الكاسيت "ياحمام بتنوح ليه.. فكَرت عليا الحبايب.. دانا قلبي مطوي ومجروح.. على فراق الحبايب" بص للكاسيت ساعتها ولقيت عينيه غِرقِت بالدموع، استغربت حاله وقربت منه وسألته...
- عتبكي ليه ياولد عمي؟
- اتوحشت أمي وبايني هموت غريب يا بسطاوي ومش هعاود داري من تاني.
- روق ياعبـهادي.. روق ياخوي.. وان كنت خايف لكلام العيال دول يطلع صُح، خليك اهنه وماتعاودش هناك تاني.
لقيته فرد ضهره وبرقلي...
- مش عبـهادي اللي يخاف يا بسطاوي.. اني هروح ويحلها المولى.
قال كلامه وزي ماتكون النداهة نَدهِتُه، قام من مكانه وقالي انه هَيروِح، حاولت اقنعه يقعد لكن مافيش فايدة، عينيه كانت شاردة وودانه ماسمعاش غير صوت واحد، ضحكة العيال عليه، تبت على البندقة واتأكد انها متعمرة وخرج، وكانت اخر مرة اشوفه فيها، بعد ساعة سمعت صوت عيارين، فتحت الباب وخرجت، لقيت الكارافان والع وعبـهادي قدام الكارافان بيولع والبندقة في يده.. ماكدبش عليك ياولدي خوفت.. خوفت اقرب منيه وفضِلت واقف مكاني بتفرج عليه وهو بيولع.
- بس انتوا كنتوا قاعدين هناك في الصحرا ليه؟
- ماكنتش صحرا، دول كانوا عيبنوا مشروع جديد واني وعبـهادي كنا الغفر اللي بنُحرس المعدات على ما المهندِسين والعمال ياجوا.
- طب وبعدين ياعم بسطاوي، ايه اللي حصل؟.. المشروع ماكملش ولا ايه؟
- لا ماكملش، اصل عبـهادي ماكنش الوحيد اللي مات هناك، لما العمال وصلوا، الكل بدأ يشوف حاجات غريبة وبدأوا يخافوا ويمشوا واحد ورا التاني، والمهندسين كمان مشيوا، اما صاحب المشروع ف حاول مرة واتنين لكن ماحدش كان بيقدر يقعد كتير، عشان اكده باع الأرض لناس تانية مايعرفوش حاجة عن الحكاية دي واصل.
- طب وانت قعدت في المكان ازاي بعد ما شوفت عبد الهادي بيولع قدام عينيك؟
- لاه، اني ماقعدتش، اني تاني يوم سيبت المكان ومشيت، بس عرفت اللي قولتهولك دوت بعديها، لما قابلت المِهندِس اللي دلك عليا.. قابلته في موقع تاني كنت بحرِسه وسألته عن اخبار المشروع، فحكالي اللي قولتهولك.
******
قولت لسلمان وقتها...
- اخرج شوف سكينة الكهربا يمكن الواد عبـحميد عمل قفلة وهو شغال.
خرج سلمان، ومافيش ثواني وبدأت اسمع صوتهم من تاني والمرة دي كانوا بيغنوا "توت توت تتو تتو تتو تتو توت.. توت توت قطر زغنطوط توت توت في الليل بيفوت توت توت.. ويهل علينا توت توت في ميعاد مظبوط تتو تتو تتو تتو توت"
اول ما سمعت الاغنية قلبي اتقبض وقومت وقفت وانا ببص حواليا يمين وشمال وقولت لعرابي...
- سامع اللي انا سامعه يا عرابي؟
قالي باستغراب...
- سامع ايه يا عم عبـرازق؟!.. مافيش حاجة.
الأغنية كانت بتردد في ودني بشكل مستمر، وفجأة شق الليل صرخة مرعبة، الصوت كان جاي من فوق، طلعت جري وانا بتكعبل في الضلمة وندهت على العيال كلهم...
- عواد.. مغاوري.. يا عبـحميد.. عواد.. مغاوري.. يا عبـحميد..
لكن ماحدش فيهم كان بيرد، الطرقة كانت فاضية، خبطت على أول باب، مافتحش، وفي اللحظة دي سمعت الصوت من تاني، كانوا بيغنوا في أوضة من الأوض، مشيت ورا الصوت لحد ما وصلت للباب وفتحته، كان صوتهم أعلى وأوضح وأقرب، وفجأة لقيت قدامي على نورالقمر اللي ضارب في الأوضة، جثة متعلقة في النجفة، ماكنتش عارف جثة مين، قربت منها ببطء واول ما وصلتلها، بلعت ريقي وانا بلفها، وساعتها عرفت انها جثة عبـحميد، سيبت الجثة عشان تلف وتتهز، وفي اللحظة دي صوت ضحاكاتهم عِلي، الدموع كانت جريت على وشي، افتكرت عواد ولدي، خرجت من الأوضة جري ووقفت في الطرقة أبص يمين وشمال، ماكنتش عارف هو في انهي أوضة، مشيت ناحية الشمال وفتحت أول باب، مالقتوش، ومن تاني رجعوا يغنوا، المرة دي قلبي اتخلع على ولدي اكتر، مشيت ناحية الصوت، فتحت الباب ودخلت الأوضة، ماكنتش شايفه، صوتهم كان بيعلى أكتر، واني بدور في كل ركن في الأوضة، بس مافيش حد، ارتحت شوية لما مالقتش جثته ولفيت وشي عشان اخرج، بس ساعتها الباب اتقفل ولقيت عواد قدامي متمسمر في ضهر الباب، متثبت في الباب بالمسامير، والدم نازل من كل حتة في جسمه، اتجمدت في مكاني، حسيت ان فقدت النطق، ولدي قدامي متعلق على الباب، صوت ضحكاتهم علي وزاد، لفيت حوالين نفسي وانا بحاول ادور عليهم، كنت بشتم بأبشع الألفاظ عشان استفزهم يظهروا، بس كل اللي كانوا بيعملوه انهم بيضحكوا، قربت من الباب وحاولت افك عواد لكنه كان متثبت بمسامير كتير، قلبي ماطوعنيش اقرب منها لاوجعه تاني حتى وهو ميت، وفي اللحظة دي سمعت صرخة عالية، وبعدها سمعت صوتهم بنفس الاغنية، فتحت الباب وخرجت، ومشيت ورا الصوت، المرة دي كان في اخر الطرقة واحد نايم على الأرض، قربت منه وعرفت انه مغاوري، كان نايم وجنبه ماكنة اللحام، قعدت على ركبي وبصيت عليه، لقيته ميت وعينيه مخرمة ببنطة اللحام، وخرم تالت بالبنطة في نص راسه.. وكالعادة كانوا واقفين في مكان ماعرفوش وبيضحكوا عليا، افتكرت وقتها سلمان وعرابي، لازم اخدهم ونهرب بسرعة، نزلت على تحت جري، بس مالقتهمش، بصيت يمين وشمال، ماكنش ليهم أثر، لحد ما دخلت الاوضة اللي بننام فيها ولقيت منظر مرعب، كان قدامي طفل واقف وفي يده فرشة، بيغطس الفرشة في الجردل وبعدين يمشيها على الحيطة فتتلون بلون دم، بص لي وابتسم قبل ما يقول...
- اللون ده احلى.
سيبته وخرجت بسرعة، بس واني بجري اتكعبلت ووقعت على الأرض، كان قدامي جردل من بتوع البويا شوفت جواه راس عرابي متغطسة في دمه، قومت من مكاني وجريت ناحية الباب، واول ما فتحته لقيت سلمان متعلق في السقف ورجليه قدامي، بعدته عني وجريت ناحية البوابة، صوت ضحكاتهم كان عالي وكنت حاسس انهم بيجروا جاري، سديت وداني وغمضت عيني عن أي حاجة وخدت قرار اني اخرج من هنا مهما حصل، وصلت للبوابة وفتحتها بسرعة وفضلت اجري لحد ما وصلت للطريق، ومن هناك طلعت على قسم الشرطة وقدمت بلاغ وقولت كل اللي حصل، وطبعًا ماحدش صدقني، في الاول اتهموني ان اني اللي قتلتهم، بس بعد كده اسقطوا التهمة عني لما عرفوا الطريقة اللي الشباب ماتوا بيها، وعرفوا ان استحالة اكون اني اللي عملت كده، خصوصًا إن الطب الشرعي أثبت إن عواد اتثبت في الباب وهو حي وفضل عايش لحد ما دمه اتصفى، وكمان ماكنش في أثر لأي مخدر في أي جثة من الجثث، وطبعًا استحالة انا اقتل خمس شباب لوحدي من غير ما اخدرهم، ورجعت من غير خمسة كانوا من زينة شباب البلد.
- بس اللي انت بتقوله ده يا عم عبدالرازق ولا في الخيال.
- اني عارف انها حكاية ماتتصدقش، بس مش كل حاجة لازمًا يكون لها تفسير، حاجات كتير في حياتنا لو دورنا وراها مش هنقدر نلاقي اسباب لوجودها.
- انا دورت عليك كتير، ودورت على كل الصنايعية اللي اشتغلوا قبلك وقالوا انهم حصل معاهم حاجات زي اللي حصلت معاكوا.
- قدري خبى عليا، كان بيجيب الصنايعية تشتغل ولما يحصل اللي يحصل يمشيهم من سكات ويجيب غيرهم من غير ما يقولهم اللي حصل، وفضل يعمل كده لحد ما وصلي وكانت التشطيبات الاخيرة.. واني زي المغفل وافقت والفلوس زغللت عيني.
- اي حد في مكانك كان ممكن يعمل كده، بس ياترى هم ليه سابوك انت؟
- افتكر الولية اللي ظهرت عند الشباك هي اللي منعتهم يجوا جاري لان ليلتها قالت لي ماتخافش يا عبـرازق، ماحدش فيهم هيجي جنبك.
- طب وتفتكر ليه العيال دي بتقتل اللي بيروح هناك؟
- مش عارف.. بس العيال دي غضبانة.
- كل اللي قبلك قالوا نفس الكلمة.
- لو شوفت عيونهم بتلمع ازاي هتعرف انهم مليانين شر وغضب.
******
رشدي يومها خرج يجري من الشقة وجالي هنا، اول ما فتحت الباب وشوفته اتخضيت، وشه كان اصفر وعينيه تحتيها اسود من كتر السهر، جسمه كان بيتنفض، وعشان كده سالته بلهفة...
- مالك يا رشدي؟ تعالى ادخل.. تعالى.
دخل من غير ما ينطق ولا كلمة، قعد على الكرسي ده وسكِت، ف سألته تاني...
- مالك يا رشدي احكيلي؟
بدأ يتكلم والدموع في عينيه، وحكالي كل اللي قولتهولك، وفي الاخر قالي...
- الواد ده جِه معايا من هناك، انا كنت حاسس بيه يومها في العربية بس كدبت نفسي وقولت تهيؤات، خصوصًا ان الدنيا كانت بتمطر، بس انا كنت بشوفه في المراية وأول ما الف مش بلاقيه، لحد ما ظهرلي النهاردة، انا ميت ميت يا فؤاد.
- اهدى يا رشدي يا اخويا مافيش حاجة من دي، وان شاء الله خير.
- انا عارف انا بقولك ايه، مش هيسيبوني في حالي.
- طب خلاص يا رشدي بلاش ترجع الشقة تاني وخليك قاعد عندي هنا.
- المشكلة مش في الشقة يا فؤاد، المشكلة...
سكت وقتها وهو بيبص ناحية البلكونة اللي كان بابها مفتوح، وبعد ثواني قام وقف وكأنه بيحاول يلحق حاجة هتقع، قومت وقفت وانا ببص على البلكونة لكن ماكنش في حاجة، وعشان كده سألته...
- في ايه يا رشدي؟
- تسنيم.. تسنيم كانت هنا ونطت من البلكونة؟
- انت اعصابك تعبانة من اللي حصل، انا بقترح تيجي عندي المستشفى تريح اعصابك يومين.
- صح.. انا فعلًا محتاج اريح اعصابي يومين، خدني المستشفى يا فؤاد.
لبست ونزلت انا وهو وروحنا المستشفى عندي، دخلته وقعدته في جناح خاص ووصيت الدكاترة تلامذتي يهتموا بيه، وبعد ما اطمنت انه نام سيبته ورجعت البيت عشان اتفاجئ الفجر بتليفون بيبلغوني فيه بإن رشدي انتحر.
- انتحر؟!.. انتحر ازاي؟
- دخلوا عليه لقوه خانق نفسه بسلك التليفون.
- هو كان معاه تليفون في الأوضة؟
- انا ماكنتش حابسه ولا هو مريض نفسي، كل الحكاية إنه كان رايح يرتاح شوية، فكنت بعامله معاملة نزيل في فندق، ماتنساش انه اخويا.
- طب ومدام سلوى وتسنيم، ماحدش عرف عنهم حاجة بعد كده؟
- الحقيقة لا، ماحدش فيهم ظهر تاني.
- دكتور فؤاد، تفتكر الاطفال دول.. ليه بيعملوا كده؟
- ماعنديش أي تفسير منطقي بصراحة، بس على الأغلب العيال دي أرواحها مش مرتاحة.
- يمكن يكون فعلًا ده السبب، انا متشكر لحضرتك جدًا يا دكتور.
- انا اللي شاكر لحضرتك جدًا يا أستاذ شهاب، انا لما قريت مقالاتك عن الموضوع قولت لازم ابعتلك واحكيلك الحكاية يمكن تفيدك.
- أكيد طبعًا فادتني كتير، وبشكر حضرتك مرة تانية.
- العفو واتمنالك التوفيق إن شاء الله.
- عن إذنك يافندم.
- اتفضل.
******
انا شهاب كامل، صحفي تحقيقات، في يوم كنت قاعد في المكتب بشغل زي العادة، وبتابع اخبار الجرايم اللي حصلت الفترة اللي فاتت، وفجأة لقيت قدامي خبر عن فيلا اتقتل فيها اتنين عرسان، الغريب انهم اتقتلوا في فيلتهم قبل فرحهم باسبوعين، ولما روحت لاهاليهم قالوا انهم كانوا مقررين يدهنوا جزء معين في الفيلا مع بعض، وفي اليوم ده راحوا هناك وبعدها مارجعوش لحد ما الاهل راحوا الفيلا وساعتها شافوا منظر مرعب، العريس كانت راسه مقطوعة ومتغطسة في جردل البويا والعروسة كانت مشنوقة ومتعلقة في السقف، ولما روحت هناك وسألت عن الفيلا سمعت كلام كتير وغريب من الغفر اللي بيحرسوا اماكن قريبة من الفيلا، في ناس بيقولوا ان كل اللي بيسكن المكان ده أو بيدخله مابيخرجش منه تاني، الموضوع شدني كصحفي تحقيقات وعشان كده قررت أدور على الناس اللي خرجت من المكان ده سليمة، وكان أول اللي وصلتلهم عم بسطاوي، وده وصلتله عن طريق مهندس بيشتغل في الشركة اللي كانت ماسكة المشروع لما روحت له دلني على عم بسطاوي وقالي الراجل ده يعرف حاجات كتير حصلت هناك.
ووصلتله فعلًا وحكالي الحكاية اللي قدمتهالكوا، اما تاني واحد فكان قدري، وده حكالي حكايات عن عمال كتير اشتغلوا في الفيلا، وقالي إن مروان اشترى الأرض من صاحب المشروع اللي ماكملش وماكنش يعرف حاجة عن اللعنة اللي موجودة، بس لما الحوادث زادت قرر انه يشطبها على الأقل عشان يعرف يبيعها، وده اللي حصل وباعها للعرسان اللي اتقتلوا فيها، بعد كده دلني على بلد عم عبد الرازق وقالي ده الوحيد تقريبًا اللي عاش من اللي دخلوا الفيلا وهو معاه عنوانه، وروحت لعم عبدالرازق وحكالي الحكاية التانية.
بس كان صعب اوصل لكل الناس وعشان كده كتبت مقالات حكيت فيها حكايات عم بسطاوي وعم عبدالرازق وكلام قدري، وفي اخر كل مقال طلبت من أي حد يعرف معلومة عن المكان ده يبلغني، عدت ايام ومافيش حد اتواصل معايا، لحد ما في يوم جتلي رسالة من واحد وده كان نص الرسالة...
"انا محتاج اقابلك ضروري وده العنوان.. ياريت متتأخرش"
بعد ماقريت الرسالة على طول نزلت من الجرنال وروحت على العنوان، رنيت الجرس وساعتها فتحت لي بنت في التلاتينات وسألتني...
- مين حضرتك؟
- انا شهاب كامل و...
- ايوة ايوة.. اهلًا وسهلًا بحضرتك.. اتفضل، بابا مستنيك جوة.
دخلتني الصالون وبعد خمس دقايق دخل عليا راجل عجوز في اخر الستينات تقريبًا، لكنه طول بعرض وظاهر على ملامحه الحزم والجدية، دخل وسلم عليا وبعدين قعد على الكنبة اللي قدامي وقالي...
- انا قريت المقالات بتاعتك بخصوص المكان ده، ومن بعد ما قريتها حسيت ان ليها علاقة بالاطفال اللي بيظهروا هناك.. خصوصًا إنك بتقول ان الناس اللي حصلهم كده بيوصفوا أربع اطفال وطفل خامس بيقول انه بردان.
- بالظبط يافندم، الناس اللي اتواصلت معاهم حكولي كلهم نفس الحكاية تقريبًا.. اللي بيختلف بس هو طريقة موت الضحايا.
- يبقى هم اللي بيظهروا فعلًا.
- هم مين بقى؟
-من تلاتين سنة كنت لسه ظابط في الشرطة، وحاليًا انا طلعت عالمعاش بسبب سني ومرضي، بس ده مش مهم، المهم إن وقتها حصلت حاجة غريبة اوي، جالنا بلاغ من واحد قال فيه كلام غريب اوي، قال إنه صديق لمسجل خطر، وصديقه المسجل ده جمع ست أطفال من المشردين اللي بيبقوا في الشوارع، طب وكان بيعمل كده ليه؟.. ببساطة ياسيدي كان بيجمعهم عشان واحد دجال، والدجال ده اوهمه إن في دفينة او مقبرة تحت حتة ارض صحراوية، وعشان الدفينة دي تلاقى لازملها دم ست أطفال، طب وصديق المسجل ده بيبلغلنا ليه؟.. بلغنا عشان هو كان فاكر وبحسب كلام صاحبه يعني، إن الأطفال دول هيتخدروا وهيتاخد منهم نقط دم وبعد كده الكنز هيطلع وهياخد مبلغ كويس وهيرموهم في الشارع من تاني، لكن ده ماحصلش، اللي بلغنا قال إنه سمع صاحبه وهو بيتكلم مع الدجال ده بصوت واطي وبيقوله إنه جهز التنر والجاز بكمية معقولة عشان يكفي الست أطفال، ولما صعبوا عليه جري وبلغنا وقال إنه فاعل خير، بس قبل ما يقفل المكالمة كان بلغنا بمكان الأرض بالظبط، وفعلًا خدنا قوى وروحنا، وساعتها شوفنا المفاجأة، الست أطفال كانوا محروقين وجنبهم جراكن تنر وجثث الاتنين، الدجال والبلطجي، وقصادهم كان في حفرة فاضية مافيهاش اي حاجة ولا حتى في دليل إن ممكن يكون تحتها دفينة او مقبرة، اتصلنا بالأسعاف اللي جت فورًا وبدأت تشيل في الجثث، كنا فاكرين إن كلهم ماتوا، لكن اللي اكتشفته إن الإسعاف وهي بتشيل طفل من الأطفال اتكلم وقال بصوت مهزوز..
-عمو عمو.. انا بردان ياعمو.
ماقدرتش امسك نفسي وغصب عني دمعت، وطبعًا الولد ده عقبال ما راح المستشفى كان مات، وبس.. اتقفلت القضية وماكنش في لا كنز ولا حاجة، وحتى الشخص اللي بلغنا ماقدرناش نوصل لشخصيته، وخلاص.. انتهى الموضوع على إن دجال وبلطجي خطفوا اطفال شوارع عشان يقدموهم قرابين لطقوس شيطانية، والظاهر كده إن النار مسكت فيهم كمان لسبب ما الله اعلم بيه، واتحرقوا معاهم وماتوا، لكن من وقتها وانا مابقتش انا، الحزن ملى حياتي بعد ما شوفت الأطفال وهم محروقين وخصوصًا الولد الصغير، بس بطبيعة شغلي ماقدرتش اكمل في الحزن كتير وتناسيت عشان الدنيا تمشي، وفضلت متناسي لسنين، لحد ما قريت المقالات بتاعتك، ووقتها عرفت.. عرفت إن الأطفال اللي انت كتبت عنهم هم نفس الأطفال اللي انا شوفتهم محروقين... لكن تعرف، في حاجة مهمة نسيت اقولهالك، انا ليلتها وبعد ما روحت ونمت بعد نوبة بكا دخلت فيها، حلمت بنفس الطفل وبالأطفال اللي معاه وهم بينادوا على بعض بأسماء يادوب قدرت اسمع منهم كام إسم، سليم.. مازن.. وكذا أسم كمان لما صحيت مافتكرتهمش، إنما اللي فاكره كويس هو صوت الأغنية اللي ختموا بيها الحلم وكانوا بيغنوها سوا..
" توت توت تتو تتو تتو تتو توت توت قطر زغنطوط.. توت توت.. في الليل بيفوت.. توت توت.. ويهل علينا.. توت توت.. في ميعاد مزبوط تتو تتو تتو تتو توت"
- مش دي الاغنية اللي هم بيغنوها قبل ما...
- ايوة هي.
- طب وتفتكر حضرتك الاطفال دي بتعمل كده ليه؟
- الاطفال دول اتأذوا بشكل بشع وهم أحياء من عيشتهم في الشوارع، وكمان قبل ما يموتوا فضلوا يتحرقوا لحد ما ماتوا، واللي بيحصل للي بيقعد في الأرض دي وارد اووي يكون بسبب قرنائهم او شيطاينهم اللي اتفزعوا من طريقة موتتهم، وعشان كده بيطلعوا لكل اللي بيظهرلهم وبينتقموا من الدجال والبلطجي فيه، وبرضه الله أعلى وأعلم، انا مش هفتي، انا قولتلك اللي اعرفه وقولتلك تفسيري البسيط للي بيحصل.
-تمام جدًا يافندم، تفسير حضرتك منطقي جدًا، وهو الاقرب للحقيقة.
- للأسف.
وبعد ماخلصت معاه نزلت من البيت وروحت الجرنال، كتبت كل اللي هي قاله وشيلت اسمه زي ماطلب مني، وضميت كلامه لكلام اهل الضحايا اللي قابلتهم.
لكن تاني يوم جت لي رسالة من دكتور فؤاد وبعد ما قابلته اتجمعت كل الخيوط، وبدأت اظبط الحوادث بتاريخ حدوثها من الأقدم للأحدث بنفس الترتيب اللي حضرتكوا شوفتوه دلوقتي. وبكده اتقفل التحقيق في لعنة أرض الطريق الصحراوي، لكن لسه في سؤال واحد ما اتجاوبش عليه اجابة منطقية لحد دلوقتي.. ليه الاطفال دول بيعملوا كده؟!.. تفتكروا ليه؟!
شهاب كامل.. في 25\ نوفمبر\2019
تمت بحمد الله
بقلم الكاتب: شادي إسماعيل.