
بقلم الكاتب: شادي إسماعيل
وفي وسط ده كله وفجأة ظهر قدامي الراجل الأسمر الطويل، واقف قدامي، بيبص لي بأسى وحزن، المرة دي سألته بسرعة...
- انت مين؟.. وليه الناس دي مش شايفاك زيي؟
- ماحدش غيرك يقدر يشوفوني.
- اشمعنا انا؟
اختفى، بصيت في الطرقة اللي بين الكراسي يمين وشمال بس ماكنش له أي أثر، قعدت على الكرسي ولتاني مرة جملة البنت اترددت في وداني "انت هتموت" حسيت إن نفسي بيضيق ومش قادر اتنفس، لفيت وشي بالعافية وبصيت ورايا ناحية الكرسي اللي البنت قاعدة عليه بس.. بس ماكنتش موجودة، ماعرفش ليه قلقت أكتر، قاومت وبصعوبة قدرت أقوم، مشيت لحد الكرسي بتاعها واتأكدت ساعتها إنها مش موجودة فعلًا، بصيت على يميني وسألت الست العجوزة...
- البنت اللي كانت هنا راحت فين؟
بصت لي باستغراب قبل ما تسألني...
- بنت مين؟.. اللي قاعد هنا راجل كبير في السن، وهو دلوقتي في الحمام.
- يا هانم كان في بنت صغيرة قاعدة هنا وكان معاها مجلة، هي مسافرة لمامتها والمضيفة هي المسؤولة عنها.
- مش عارفة بس انا لما جيت ماكنش فيه غير الراجل الكبير هو اللي قاعد وماكنش معاه أي بنت.
يا ولاد الـ... انتوا مصممين تجننوني، في اللحظة دي لاقيت راجل كبير في السن واقف قدامي وبيقولي...
- بعد إذنك ممكن توسع شوية عشان ارجع للكرسي بتاعي.
بعدت عن طريقه ولاقيته قعد مكان البنت، رفعت حواجبي وانا ببص عليه، لكنه قعد ومسك مجلة، اول ما شوفتها شديتها من ايده بعنف وانا بقوله...
- مين اداك المجلة دي؟
بص لي باستغراب وقال بصوت عالي...
- دي مجلتي، جايبها معايا.
- انت كداب دي مجلة البنت الصغيرة اللي كانت قاعدة هنا.. وديتها فين؟
- ماكنش في اي بنت هنا.. ولو سمحت هات المجلة بتاعتي.
- مش هديك حاجة غير لما اعرف وديت البنت فين؟
- انت لا يمكن تكون طبيعي.
طلب ساعتها المضيفة ولاقيتها جاية بسرعة، اول ما شافتني بصت لي بغيظ وقالت...
- انت تاني؟!.. عملت ايه المرة دي؟
- هو ايه اللي انا تاني!.. هو انا كنت عملت حاجة أصلًا.
اتكلم الراجل العجوز وقالها...
- انا كنت في الحمام ورجعت عشان اقعد مكاني لاقيت الراجل ده واقف ومصمم إن كان في بنت قاعدة هنا مكاني، وخطف مني المجلة بتاعتي ومش راضي يرجعها.
لفت وشها ناحيتي وقالت بحزم...
- هات المجلة بتاعت الراجل، وياريت تقعد مكانك وماتعملش مشاكل تانية، مش كفاية إنك سيبت ابن الست يموت.
- مش هرجع حاجة قبل ما اعرف وديتوا البنت فين؟
- بنت مين؟
- البنت اللي كانت قاعدة هنا، المفروض إن زميلتك مسؤولة عنها لحد ما توصلها لأمها.
دققت النظر فيا لثواني وبعدين سألتني...
- انت كويس يا أستاذ؟
- انا كويس، وبعدين ايه الطريقة اللي بتتكلمي بيها دي هو انتِ شايفاني مجنون قدامك؟
- طب لو سمحت ممكن تديني المجلة.
بصيت على ايدها الممدودة قدامي وبعدين بصيتلها لاقيتها بتهز دماغها بابتسامة سخيفة، بصيت للعجوز اللي نظراته كانت مليانة شفقة، ناولت المضيفة المجلة بس افتكرت وقتها حاجة، فطلبت منها ابص في المجلة بصة أخيرة، ناولتهالي بنفاذ صبر، مسكتها وقلبت فيها وساعتها شوفت في صفحة من الصفحات كاريكاتير ساخر للأطفال، ايوة هو ده اللي البنت كانت بتضحك عليه، انا مش مجنون، رجعت المجلة للمضيفة وهي بدورها رجعتها للراجل العجوز، بعدها بصيتله وانا بقوله...
- انا اسف على سوء التفاهم اللي حصل.
ماردش عليا واكتفى بنظرة غريبة وبعدها بص في المجلة وهو بيعدل صفحاتها اللي اتكرمشت، لفيت وشي عشان ارجع الكرسي بتاعي تاني، بس فجأة لقيت ايد بتمسكني، اتثبت في مكاني وبصيت ناحية الأيد اللي مسكتني وكانت ايد الست العجوزة، سألتني بقلق...
- انت كويس؟
هزيت دماغي بالنفي وساعتها بان على وشها نظرة حزن، طبطبت على ايديها وبعدين مشيت ناحية الكرسي بتاعي، فردت ضهري وحسيت دماغي بتغلي، طلعت شريط المنوم ومسكت حباية منه، ايدي اتسمرت في الهوا لثواني قبل ما اخدها وبعدين قولت "مش مهم، اموت اموت، المهم اني انام لحد ما الرحلة الغريبة دي تخلص" خدت الحباية ورجعت الشريط في جيبي، واسترخيت وبعد دقايق ماحسيتش بحاجة.
كان قدامي راجل نايم وراجع بضهره في الكرسي، ماكنتش قادر أشوف وشه، وفجأة ظهرت أم الولد وقعدت على صدره وبدأت تخنق فيه، الراجل حاول يقاوم لكنه ماقدرش، الست كانت خانقاه بكل قوتها، حاول يستنجد بأي حد لكن كل اللي في الطيارة نايمين وعلى عينيهم العُصابة، وأخيرًا فاقت الست العجوزة وقامت بصت عليها، اتصدمت من المنظر وبسرعة بدأت تصرخ في وسط الطيارة، الناس فاقوا واحد ورا التاني، بس لما قاموا كانت الأم للأسف قتلت الراجل، مش عارف هي قتلته ليه؟.. الطيار خرج من الكابينة والمضيفة جت جري من جوة، أما الأم فكانت بتبصلهم وهي مبتسمة ابتسامة مجنونة، وبتضحك بصوت عالي، مسكها الطيار من ايديها وقومها من فوق الراجل وبعدها دخل بيها ناحية ديل الطيارة ماعرفش وداها فين؟.. لكن بعد دقايق رجع تاني وطلب من الركاب كل واحد فيهم يقعد مكانه، بعدها طلب من شاب قاعد لوحده إنه يقوم ويساعده في رفع جثة الراجل عشان يدخلها جوة، بصله الشاب بخوف لثواني قبل ما يقوم معاه، شالوا الاتنين الجثة ودخلوا بها ناحية ديل الطيارة، مشيت وراهم وساعتها لاقيتهم داخلين المطبخ، أول ما دخلت شوفت الأم قاعدة على الأرض وايدها مربوطة في عمود استيل، وجنبها نزِلوا الاتنين جثة الراجل ونيموها على الأرض، ماكنتش قادر اشوف ملامحه، بعدها غطى الطيار الجثة وخرج هو والشاب من المطبخ، بصيت للأم اللي كانت في حالة جنون تام وهي بتشتم صاحب الجثة وبتتف على جثمانه الموجود جنبها على الأرض، قربت من الجثة بهدوء عشان اعرف مين صاحبها، بس فجأة حسيت إني بتخنق، وتدريجيًا بدأ المشهد يتحول لضباب.
فوقت لاقيت الأم قاعدة على صدري وماسكة في رقبتي، حاولت اقاومها لكنها كانت خنقاني بعنف شديد، وفجأة في حد ضربها ضربة قوية على دماغها وقعت بعدها في الطرقة بين الكراسي وساعتها شوفت الراجل اللي ضربها، كان صاحب النضارات واقف وفي ايده عكاز، بص لي وابتسم بعدين بص للعكاز وقالي...
- استلفته من العجوز اللي ورايا، حظك حلو اني صحيت في الوقت المناسب.
اتنهدت وانا بقف ومشيت ايدي على رقبتي، بعدين قولتله...
- الحمدلله، شكرًا جدًا انك أنقذتني.
- العفو.
بصيت على الأم اللي واقعة في الأرض وبعدها سالته...
- هنعمل ايه فيها؟
- ماتشغلش بالك انت.. انا هتصرف.
- ازاي يعني ماشغلش بالي؟
رد عليا بلهجة حادة...
- زي الناس، اقعد على كرسيك ومالكش دعوة باللي هيحصل.
ماعرفش ليه خوفت منه وفعلًا اترميت بجسمي على الكرسي بتاعي، بعدها وطى على الأرض ورفع الأم على كتفه ومشي بيها ناحية ديل الطيارة، لفيت وتابعته لحد ما وصل لاخر الممر ولاقيته بيلف وشه وبيبص عليا، رجعت بوشي بسرعة في الكرسي قبل ما يشوفني ولما لفيت تاني مالقتوش، ارتحت في الكرسي وانا بتنهد بعمق وبحمد ربنا إني لسه عايش، بس فجأة لاقيت حاجة بتخبط في وشي، بعدتها عني بسرعة وانا بقوم من الكرسي، لكن لما بصيت لاقيته دراع رضا اللي كان بيتمطع وفاتح بوقه على الأخر، وبعد ماخلص بص لي وسألني...
- إحنا بقينا فين؟
- ده على اساس إنك راكب قطر اسكندرية دمنهور!
- ايه ده؟!.. هو انت مش ممكن تعرف احنا فين؟
- هعرف ازاي يعني يا ناصح؟
- طب ما تسأل السواق.
- السواق!.. حاضر هسأله، نام انت ولما نوصل هصحيك.
- حاضر بس بالله عليك ماتنساش.
- نام يا رضا نام الله يرضى عليك.
غمض رضا عينيه والغريب إنه ماكملش ثواني وبدأ يعزف سميفونيات مزعجة، بصيت له باستغراب وبعدين افتكرت الراجل صاحب النضارات، لفيت وشي ناحية الممر وانا مستنيه يخرج من ورا الستارة الفاصلة بين الممر والمطبخ، لكنه ماخرجش، فضِلت واقف لدقايق وبرضه لسه ماجاش، الشك بدأ يدخل جوايا، وعشان كده خدت خطوتين ناحية ديل الطيارة، بس في الخطوة التالتة في ايد مسكتني من دراعي، اتثبت في مكاني وبعدها بصيت ناحية الايد اللي مسكاني وساعتها لاقيت البنت واقفة قدامي، فرحت اني شوفتها وسألتها بسرعة...
- انتِ كنتِ فين؟.. انا دورت عليكِ كتير.
ردت بخوف باين في عينيها...
- بلاش.. بلاش تدخل جوة أرجوك.
سابتني بعدها ومشيت ناحية كابينة الطيار، تابعتها لحد ما وصلت لباب الكابينة بس الغريب إنها عدت من الباب المقفول وكأنها ذرات هوا، فركت عيني في محاولة مني لاستيعاب المنظر اللي شوفته، ولا إراديًا اتحركت ناحية الكابينة، خبطت على الباب مرتين لكن ماحدش رد عليا، فتحت الباب ودخلت وساعتها.. ساعتها شوفت منظر بشع، الإزاز قدامي كان عليه بصمات لكفين لكن كانوا بالدم، وعلى يميني كان مساعد الطيار نايم بس نص جسمه ساقط في الكرسي، ورقبته مقطوعة، وعلى شمالي الطيار كان مشنوق في ضهر الكرسي، بصيت على الاتنين وانا حاطط ايدي على بوقي من الصدمة، وبعدها لاحظت إن الإزاز قدامه ضباب كثيف جدًا، قربت وانا بحاول اشوف ايه اللي قدامي، بس في اللحظة دي حسيت الطيارة بتتهز بعنف، تقريبًا كده الطيارة دخلت منطقة مطبات، ومع هزة عنيفة تانية مسكت في الدراع اللي كان قدامي قبل ما أقع، بعدها شوفت حاجة سودة بتقرب من الإزاز، قربت أكتر وفجأة لاقيت قدامي وش الأم لازق في الإزاز وايديها مكان بصمات الكفوف، منظرها كان بشع، فاتحة بوقها على الأخر وكأنها بتصرخ بصوت مش مسموع، بصت لي بغضب وبعدها كتَبِت على الإزاز "هتموت" وبعدين ابتسمت ابتسامة خبيثة واختفت، بلعت ريقي بصعوبة وانا برجع لورا، وفي الوقت ده فوقت على صوت إنذار، وبعدها رسالة على الشاشة، ماكنتش فاهم ايه اللي مكتوب لكن اللي كنت متأكد منه إنه في حاجة غلط بتحصل، خرجت بسرعة من الكابينة، بس أول ما فتحت الباب لاقيت الطيارة ضلمة والكراسي كلها فاضية، إزاي ده؟!.. فين الركاب؟.. لمحت خيال في اخر الممر، بعدها سمعت صوت ضعيف بيقول...
- جاسر.. انت ميت.
كان صوت ست، أكيد هي الأم اللي ظهرتلي في الكابينة، فضلِت تكرر الجملة دي كتير ومعاها بدأت اسمع صوت الطفل بيصرخ، حسيت وقتها إني بتخدر أو بنام تنويم مغناطيسي، وغصب عني بمشي ناحية ديل الطيارة، بس فجأة الطيارة اتهزت وفي حاجة وقعت من السقف جنبي، فضلت اضربها بايدي بهيسترية بس بعد ثواني ولما ركزت اكتشفت انها أقنعة الأكسجين، صوت الست رجع من تاني...
- جاسر انا مستنياك.. وابني كمان مستنيك.
جسمي بدأ يتنفض مع نغمة صوتها الحزين، ماكنتش عارف أعمل ايه؟.. في حاجة بتسحبني ناحيتها، بحاول اقاوم لكن مش قادر، رجلي بتتحرك غصب عني، كنت ماشي في الطُرقة لما بصيت على يميني وساعتها شوفت رضا، كان.. كان.. لا مش هو اللي كان، دي راسه هي اللي محطوطة على قاعدة الكرسي وباصة ناحيتي، أما رضا نفسه فكان جسمه نايم على الشباك من غير راس والتي شيرت مليانة دم، حسيت برعشة في جسمي كله، بصيت على الكرسي اللي وراه لاقيته راجع لورا والست العجوزة جسمها مفرود بس مابيتحركش، قربت منها أكتر، اتصدمت من اللي شوفته، منظرها بشع، عينيها الاتنين مش موجودين ولسانها مقطوع ومحطوط كانه قلادة على صدرها، في اللحظة دي في ايد خبطت في دراعي، رجعت لورا بسرعة، بعدها لفيت وشي برعب، وساعتها شوفت الراجل صاحب النضارات، راسه لازقة في الكرسي بس قناع الأكسجين قافل على وشه بشكل غريب ومليان دم، الغريبة ان مراته كانت نايمة على كتف الراجل غريب الأطوار وحاطة ايدها الشمال على ايده، بس رقبتها.. رقبتها مربوطة بحبل نازل من سقف الطيارة، اما غريب الأطوار فكان نايم وراسه ساندة على ضهر الكرسي وعينيه الاتنين في كل واحدة فيهم سكينة بلاستيك، والدم نازل علي وشه وصدره.
في اللحظة دي بدأت اسمع صوتها تاني، وقالت بصوت مخيف...
- انت الوحيد اللي لسه عايش.. تعالى ماتخافش.
غصب عني عيطت، ماهو انت لو شوفت اللي انا شوفته مش هتلاقي حاجة تعملها غير إنك تعيط، وانا عيطت، وفي وسط عياطي سمعت صوت ضحكتها، ضحكة مرعبة زلزلت كياني ودمرت أعصابي أكتر ماهي مدمرة، قررت استسلم للموت واروحلها برجلي، مشيت ناحيتها وانا ببص على يميني وعلى شمالي، مافيش غير جثث بني ادمين، الدم مغرق الكراسي، بصيت قدامي لاقيت الستارة اتفتحت بس ماكنش في حد، بعدها سمعت صوتها بتقول...
- تعالى.. تعالى.
اتقدمت بخطوات تقيلة ناحية الستارة، بس فجأة في ايد مسكتني، لما لفيت لاقيت البنت واقفة قدامي وبتعيط، قعدت على ركبتي قدامها وانا ببصلها والدموع في عينيا، هزت راسها بالنفي وهي بتقول بصوت ضعيف...
- بلاش يابابا.. بلاش تروحلها.
- بابا!.. بابا إزاي؟
قبل ما ترد عليا سمعت صوت الست رجع من تاني والمرة دي قالت...
- ماتسمعش كلامها يا جاسر.. تعالى.
بصيت ناحية الستارة ورجعت بصيت تاني للبنت اللي كانت لسه بتعيط وسألتها...
- هو انا ابقى ابوكِ؟
- ايوة انت بابا.
- إزاي وامتى؟
- مش وقته دلوقتي، المهم انك ماتروحلهاش.
فجأة لاقيت الست دي بتصرخ بصوت عالي وبعدها النار بدأت تمسك في الطيارة كلها، البنت صرخت، حضنتها وانا بحاول احميها من النار، لكن.. لكن بعد دقيقة اكتشفت انها مش موجودة واني حاضن سراب، مش فاكر ايه اللي حصل بعد كده، بس كان يوم بشع.
******
بعد ما جاسر خلص كلامه قولتله...
- بس مش ده اللي حصل يا جاسر.
رفع حواجبه في استغراب وسألني...
- اومال ايه اللي حصل؟
- انت كنت مسافر انت وعيلتك وللأسف الطيارة اللي كنتوا مسافرين عليها حصل فيها عطل مفاجئ والطيار ماكنش قدامه حل غير انه يعمل هبوط اضطراري، واثناء الهبوط الطيارة اصطدمت بقوة في الأرض واتقسمت نصين وانت وكام شخص بس اللي فضلتوا عايشين اما كل الباقيين فللأسف ماتوا بما فيهم مراتك وبنتك.
- بس انا.. انا مش متجوز.. انا متأكد اني مش متجوز.
-لا انت كنت متجوز وكان عندك بنت، وبالمناسبة كمان انت دكتور فعلًا.
- انت كداب انا مش دكتور ولا متجوز.. انت ليه.. ليه بتقول كده؟!
- عشان دي الحقيقة اللي لازم تواجهها وتتغلب عليها، الهروب عمره ماكان حل.
- انت.. انت عايز مني ايه؟.. عايز تجنني صح؟!.. انت زيك زيهم.. كلكوا عايزين تجننوني.
- انا مش عايز غير انك تواجهه اللي حصل وتحاول تتأقلم معاه وتعديه.. انت يومها كنت مسافر انت ومراتك وبنتك...
- بس ماتتكلمش.. انا مش عايز اسمعك.
- لا لازم تسمعني.. لازم تواجه خوفك.. ركبت الطيارة معاهم وروحتوا ناحية الكراسي بتاعتكوا...
- ارجوك بلاش.. كفاية..
- طبعًا انت فاكر ايه اللي حصل اول ما جيت تقعد..
- لا مش فاكر مش فاكر.
- لا فاكر.. لقيت راجل قاعد على كرسي من الكراسي بتاعتكوا..
(صوت فاصل وبنروح للي حصل في الطيارة)
- لو سمحت يافندم الكراسي دي محجوزة لنا.
- اوووه سوري.. الظاهر اني اتلغبطت.
قام الراجل من مكانه وبعدها دخلت ريم بنتك وقعدت جنب الشباك وبعدها سالي قعدت وانت جنبها، فاكر ايه اللي حصل بعدها؟
- لا مش فاكر.. مش فاكر.
- حاول تفتكر.. اتغلب على خوفك.
رجع بضهره في الشازلونج وهو ماسك دماغه من الألم، بعدها قال بصوت ضعيف...
- سالي قعدت ومسكت ايدي وهي مبتسمة، ابتسمت في وشها وبعدين بصيت لريم وبنفس الابتسامة قولتلها...
- مبسوطة ياحبيبتي؟.. اديني هفسحك زي ماوعدتك.
- مبسوطة اوي يابابا.. انت احلى بابا في الدنيا.
- وانتِ احلى ريم في الدنيا.
بصتلي سالي وهي غيرانة وقالتلي...
- يا سلام.. مابقاش في غير ريم دلوقتي؟
- لا ازاي!.. هو احنا من غيرك نعرف نعيش يا احلى ماما.. ولا ايه يا ريم؟
- انتِ احلى ماما يا ماما.
مشت سالي ايدها على شعر ريم وهي بتقولها...
- وانتِ احلى ريم.. ربنا مايرحمنيش منك ابدًا ياحبيبتي.
بعدها بصت لي ومشت ايدها على دراعي قبل ما تسند راسها على كتفي وتقول بهمس...
- بحبك.
ميلت راسي على راسها...
- بحبك.
ماعرفش نمت قد ايه لكن صحيت على صوت كركبة جنبي، فتحت عيني لقيت المضيفة واقفة وباين عليها الخجل وبتبص على الأرض، بصيت ناحية الأض شوفت كوباية قهوة واقعة ومبهدلة الممر، بصت لي وقالت...
- انا اسفة اني ازعجت حضرتك.
- لا مافيش ازعاج ولا حاجة.
- انا هتصرف بسرعة.
- براحتك.
لفيت وشي في الكرسي بتاعي وبصيت على سالي وريم اللي كانوا نايمين نوم عميق، ابتسمت وانا بسند راسي على الكرسي، وفي اللحظة دي سمعت صوت طفل بيعيط (صوت عياط هادي لطفل) ماكنش عياط هيستيري، كان عياط زن، شكله جعان، لفيت راسي ورا وساعتها شوفت الأم وهي بتطبطب على ضهره وبتحاول تنيمه، ابتسمت وافتكرت ريم لما كانت قده، ياما غلبتني انا وسالي عشان تنام، الأطفال نعمة من ربنا، اتعدلت في الكرسي بتاعي، وساعتها شوفت ست عجوزة قاعدة على الكرسي اللي جنبي ابتسمت في وشي، ابتسمتلها وانا بهز راسي، بعدها لقيتها ماسكة صورة في ايدها وكانت هي في الصورة ومعاها بنت في عمر ريم وجنبهم شجرة الميلاد، شوفتها بتبص في الصورة وبتبتسم ابتسامة جميلة، سندت راسي على الكرسي وغمضت عيني ونمت.
******
وقف جاسر عن الكلام، قومت وقفت وانا بقرب منه...
- كمل يا جاسر.. كمل ايه اللي حصل بعد كده؟
سكت دقيقة وهو بيحاول يقاوم الألم المختلط بدموعه وبعدين قال بنبرة مليانة حزن...
- فتحت عيني لاقيت المضيفة واقفة قدام الكرسي اللي قبلي بكرسين وبتحاول تسعف شخص انا مش شايفه.. فكيت الحزام ومشيت ناحيتها بسرعة.
(فاصل وهننقل للطيارة)
- في ايه؟
- مش عارفة، مش قادر يتنفس وبيموت.
- طب ابعدي انتِ انا هساعده.
- انت دكتور؟
- ايوة انا الدكتور جاسر نبيه.
رجعت لورا واتقدمت انا من الراكب، كان راجل اسود طويل، بيتنفس بصعوبة وكإن روحه بتخرج، مديت ايدي وبدأت افكله زراير القميص وانا بسأله...
- انت بتعاني من أي مرض مزمن؟
شاور بايده ببطء ناحية حاجة واقعة على الأرض، وطيت جبتها وكانت بخاخ، مسكته ورجيته عشان ادهوله لكن للأسف كان خلص، اتكلم ساعتها وقال بصوت ضعيف...
- ماتسبنيش.
بصيت للمضيفة وزعقت فيها...
- شنطة الإسعافات بسرعة.
جريت تجيبها، اما انا فبصيت للراجل وقولتله...
- ماتخافش انا مش هسيبك.. مش هسيبك.
قدامي كانت الست العجوزة واقفة في الكرسي وهي بتبص لي والدموع في عينيها، وجنبي شوفت راجل باين عليه الوقار ولابس نضارة، كان واقف بيتابع الموقف بتركيز شديد، ساعدت الراجل الأسود انه يقعد بوضعية احسن، وطلبت منه يحاول يتنفس بهدوء، كان مرتبك وبيتحرك بعشوائية، وطبعًا ده ناتج من قلة الأكسجين، لاحظت إن اطرافه بدأت تزرق، وشفايفه كمان بدأت تاخد لون أزرق، وده معناه تطور الأزمة، المضيفة كانت جابت شنطة الإسعافات، ناولتهالي وبسرعة فتحتها على الأرض وانا بحاول ادور على نوع البخاخ أو أي دوا ينفع مع حالة المريض، لكن اليأس بدأ يتملك مني لما دورت في الشنطة كلها ومالقتش اي دوا ينفع اسعفه به، بصيت على الراجل وبعدين بصيت للمضيفة اللي كانت بتدمع، بعدها قومت وقولتلها...
- اخر محاولة، لازم أكسجين حتى لو من غير محلول.
هزت دماغها وجريت ناحية كابينة القيادة، وبعد ثواني نزلت الأقنعة قدامنا، مسكت قناع الأكسجين وحطيته على وش الراجل، لكن الوضع كان اشبه بحنفية ماية بتصب في كوباية مليانة، مشكلته ماكنتش نقص الأكسجين مشكلته هي انتفاخ الرئتين وبالتالي لازم محلول، بص لي بعيون بتودع الحياة، وحط ايده على ايدي اللي كانت فوق قناع الأكسجين على وشه، وبعدها غمض عينيه وايده وقعت جنبه، في اللحظة دي سمعت شهقات ودموع، شيلت القناع من على وشه والدموع في عينيا، قرب مني الراجل صاحب النضارات وطبطب على كتفي...
- انت عملت اللي عليك يادكتور.
- كنت عايز الحقه.
- ماكنش بايدك حاجة وماعملتهاش.
عيني جت وقتها على سالي، كانت واقفة بتبص لي والدموع في عينيها وحاطة ايدها على عين ريم عشان ماتشوفش المنظر، هزيت دماغي وانا ببصلها، فوقت على صوت الطيار ورايا؟...
- مات يا دكتور؟
- للأسف.
- طب لازم ننقل الجثة ورا لحد ما نوصل، مش هينفع تفضل وسط الركاب هنا.
- صح، كفاية المشهد اللي شافوه.
- ممكن تساعدني نرجعها ورا؟
- ممكن.. بس هنحتاج حد يساعدنا.
لقيت شاب وقف وقرب وهو بيقول...
- انا ممكن اساعدكوا.
شيلنا الجثة كل واحد من اتجاه ومشينا بها ناحية ديل الطيارة، أول ما وصلنا قدام المطبخ طلب الطيار ندخل به جوة، حطيناه على الأرض، وبعدها الطيار جاب كيس مشمع وفرده على الأرض وطلب مننا ننقله جوة الكيس، وبعد ما دخلناه جواها قفل الطيار السوستة، وقال...
- هنسيبه هنا لحد ما نوصل بالسلامة إن شاء الله.
خرج بعدها من المطبخ وفضِلت انا والشاب اللي كان واقف بيبص للكيس وهو منهار، قبل ما يرفع راسه ويقولي...
- أي حد فينا كان ممكن يكون مكانه دلوقتي.
- ربنا يرحمه.
- هو احنا ممكن مانوصلش؟
قدرت استنتج من سؤاله إنه دخل في حالة صدمة، قربت منه وطبطبت عليه وسألته...
- انت اسمك ايه؟
- اسمي رضا.
- بص يا رضا، أي حد مننا معرض يموت في أي لحظة وفي أي مكان وماحدش فينا عارف هيموت امتى ولا فين؟.. مش كده ولا ايه؟
- ايوة بس...
- هو عمره انتهى لحد هنا يا رضا.. واحنا اقدار ماشية على الأرض.. خليك مؤمن.
- ونعم بالله.
- انت عندك كام سننة؟
- 23 سنة.
- يعني لسه بتقول يا هادي.. فك كده ياعم رضا عشان انت لسه هتشوف كتير في الحياة دي.. ونصيحة مني لو مش عايز تموت بدري حاول تاكل شوية بدل ما انت خاسس كده.. هم كانوا بياكلوا اكلك في البيت ولا ايه؟
ابتسم ابتسامة خفيفة وسط دموعه وقالي...
- لا انا اللي ماليش تقل على الأكل.
لفيت ايدي حوالين رقبته وانا ببتسم وبقوله...
- طب تعالى يلا عشان نكمل رحلتنا، الراجل ده خلاص رحلته خلصت لحد هنا وارتاح.
خدته وخرجنا بره المطبخ وبعدها رجع قعد في كرسيه وانا قعدت في الكرسي جنب سالي اللي أول ما قعدت مسكت ايدي وسألتني...
- انت كويس؟
هزيت دماغي وانا ببتسم ابتسامة خفيفة...
- انا كويس.
ضغطِت على ايدي أكتر بايديها اليمين وسندت راسها على كتفي وهي بتمسك دراعي بايديها الشمال، بصيت على ريم لاقيتها بصة من الشباك وسرحانة، غمضت عيني وانا بحاول افصل نفسي عن كل اللي حصل ونمت.
******
وقف جاسر عند النقطة دي، بس المرة دي سكت من غير دموع ومن غير ألم، كان ساند راسه على الشازلونج ومستريح وباصص في الفراغ قدامه، سألته بهدوء...
- ايه اللي حصل بعد كده يا جاسر؟
سكت دقيقة قبل ما يقول وهو لسه باصص في الفراغ...
- فتحت عيني، وساعتها.. ساعتها كانت الفوضى في كل مكان، صريخ وفزع، والرعب على الوشوش، سالي كانت ماسكة في دراعي بقوة والهلع باين في عينيها، وريم.. ريم كانت بتصرخ بهيسترية وهي بتحاول تتعلق في هدوم سالي، حاولت افهم في ايه؟.. لكن ماكنش فيه وقت، الطيارة كانت بتتخبط بشكل فظيع، وكإنها منطقة مطبات بعدها سمعت صوت القبطان بيطلب مننا ناخد وضعية الهبوط الاضطراري، كل واحد فينا نام على الكرسي اللي قدامه، مسكت ايد سالي وضغطت عليها، وهي مسكت ايد ريم وضغطت عليها، اضاءة الطيارة كانت بتروح وتيجي، اقنعة الاكسجين بتتخبط فوقينا، وفجأة سمعت صوت الطفل بيعيط، والام بتصرخ بصوت عالي...
- ابني.. ابني.. لا.
لفيت وشي وساعتها شوفت الابن واقع في الطرقة اللي بين الكراسي والأم بتحاول توصله لكن مش عارفة تفك حزام الأمان اللي في الكرسي بتاعها، لقتني بحركة لا إرادية بفك الجزام بتاعي وبقوم ناحية الطفل، وأول ما وصلتله حصل الإصطدام، لثواني ماكنتش واعي انا فين، لكن لما فتحت عيني لقتني نايم على الأرض والطفل في حضني بيصرخ، حطيته جنبي على الأرض وعدلت نفسي، بس ساعتها لاقيت الطيارة مقسومة نصين والدخان واصل للسما، في نفس اللحظة سمعت صوت عربيات المطافي والإسعاف، حاولت اقوم وامشي ناحية الطيارة أو اللي باقي منها على أمل الاقي سالي وريم لسه عايشين.. بس.. بس أغم عليا والمرة دي لما فوقت لقيت نفسي نايم على السرير في المستشفى، والممرضة واقفة جنبي، سألتها...
- ايه اللي حصل لباقي الركاب؟
بصت في الأرض قبل ما تقول...
- للأسف ماحدش فيهم عاش.
حسيت بغضب شديد وفضلت اشتم فيها وفي المستشفى وفي شركات الطيران، وقومت عشان اخرج، لكن وقعت تاني.
بص لي بعد ما خلص كلامه وبعدين قال...
- والباقي انت عارفه كويس.
- ربنا يرحمهم يا جاسر.
- ماكنش لازم يموتوا.. ماكنش لازم ده كله يحصل.
- كلنا هنموت يا جاسر وانت ماكنتش السبب في موتهم.
- انا سيبت بنتي وروحت انقذت ابن حد تاني.. انت متخيل اني انقذت ابن امه ماتت وانا بنتي ماتت.
- دي اعمار يا حبيبي، ربنا كاتب لك انت والطفل تعيشوا.
- وليه ماكتبش لسالي وريم يعيشوا؟
- حرام الكلام ده يا جاسر، انت مؤمن وموحد بالله وعارف إن قضاء ربنا مافيهوش ليه؟.. اصبر واحتسب.
بص لي والدموع نازلة من عينيه زي المطر...
- مش قادر اعيش من غيرهم يا فؤاد.. مش قادر.. مش قادر اتخيل ان انا اللي عيشت وريم الطفلة البريئة اللي مالهاش أي ذنب ماتت.
خدته في حضني وفضِل يعيط، لحد ماهدي وقالي...
- انا محتاج انام.
- طب قوم معايا أوصلك لأوضتك.
- لا انا هنام هنا يا فؤاد.. لو تسمحلي.
- اه طبعًا مافيش مشكلة.. بس انا قصدي عشان ماحدش يزعجك.
- الكوابيس اللي بشوفها في أحلامي أقوى من أي ازعاج ممكن يحصل وانا صاحي.
- طب نام ولما تصحى نتكلم.
- شكرًا يا فؤاد.. شكرًا انك موجود في الوقت ده.
- ماتقولش كده يا جاسر احنا اخوات.. تصبح على خير.
- وانت من اهل الخير.
سيبته وخرجت بعد ما قفلت النور والباب، عدت شهور بعد اليوم ده بدأ فيهم جاسر يتخطى الصدمة اللي حصلتله وبالتدريج رجع للشغل بشكل خفيف، بس اللي لاحظته إن جاسر رجع صحيح بس في حتة منه مارجعتش وماتت هناك.
تمت بحمدالله
بقلم الكاتب: شادي إسماعيل.