القائمة الرئيسية

الصفحات

رحلة 507 الجزء الأول قصص رعب


بقلم الكاتب: شادي إسماعيل

كنت ببص في الساعة وانا واقف في صالة المطار، باقي ساعة ونص على ميعاد الإقلاع، يعني يدوب اركب الطيارة وابدأ استعد للرحلة، فعلًا دخلت من الباب وروحت ناحية الكرسي بتاعي، وانا في الطريق قابلت ست في التلاتينات قاعدة وجنبها طفل عنده حوالي 10 سنين وعلى صدرها رضيع، كان باين عليها الإرتباك جدًا وهي بتحاول تسكِته وفي نفس الوقت الطفل عمال يشد دراعها وبيطلب حاجة انا مش فاهمها بسبب لغتها الغريبة، في الكرسي اللي قصادها على الصف اليمين كان قاعد راجل غريب ملامحه جادة جدًا وباين عليه إنه مسافر لشغل، بحكم سفرياتي الكتير بقيت بقدر أعرف كل واحد مسافر ليه من خلال تعابيرات وشه، الراجل ده مسافر في شغل هو مش راضي عنه، غالبًا صفقة مجبر عليها، جنبه كانت قاعدة ست شيك جدًا وباين عليها إنها بنت ناس، ومن تعابيراتها اقدر أقول إنها مسافرة لسبب من الاتنين يا إما راحة تقابل حبيبها أو إنها راحة تقابل والدها، الفرحة اللي في عينيها دي مش ممكن تظهر إلا للسببين دول، فرحة بنت راحة تقابل فارس أحلامها أو البطل بتاعها، طبعًا انت فاهم قصدي ايه.. مش كده؟.. في الصف اللي وراهم كانت قاعدة ست عجوزة وماسكة في ايديها كتاب وباصة فيه وهي مبتسمة، باين من ملامحها إنها كانت بتزور بنتها، اتأكدت من ده لما قربت منها وشوفت صورة لحفيدتها بين صفحات الكتاب، العجوزة بدأت تحن لحفيدتها قبل ما الرحلة تبدأ، هتسألني وليه ماقولتش انها راحة تزورها لسه؟.. انا هجاوبك لإنه ببساطة ابتسامتها كانت ممزوجة بدمعة خفيفة وده معناه إنها نظرة الوداع مش لهفة اللقاء، جنب الست العجوزة كان قاعد شاب رياضي وده واضح من جسمه اللي مانسيش يستعرضه بتي شيرت ضيقة نوعًا ما، وفي ودنه هيدفون صغيرة شكلها غريب وقاعد بيهز دماغه، ابتسملي ابتسامة خفيفة، ابتسامتله نفس الإبتسامة وانا بخمن سبب سفره، مممم ده أكيد مسافر يتعرف على بنات، عشان كده بيحاول يكون ودود بشكل مبالغ فيه، وعارض نفسه بالشكل اللي هو متخيل إنه هيوقع به أي واحدة تشوفه، اااه شاب بائس، خبطت برجلي الشمال في الكرسي اللي في الصف التاني قصاد الشاب والست العجوزة، لفيت وشي عشان اعتذر لقيت راجل باين عليه الوقار ولابس نضارة، اعتذرتله وهو كمان بادلني نفس الإشارة وقال بالإنجليزية "sorry" بصيت في عينيه لثواني، رفع النضارة وكأنه كده يشوفني أوضح!.. بعدها هز راسه وابتسم ابتسامة باردة، واضح من نظراته المتفحصة ليا إنه دكتور أو كاتب روائي، وده راجع لاهتمامه بالتفاصيل، لمحت جنبه ست جميلة في الأربعينات ملامحها هادية وباين جدًا إنها مراته وده ظهر في حركتها اللإرادية لما مسكت دراعه أول ما انا خبطت فيه، شكلها بتخاف عليه، بس يبدو إنه مش بيبادلها نفس الشعور وده لإنه تجاهل لمستها ومافكرش يبصلها ويطمنها إنه كويس، وكمان إنه سايبها قاعدة في النص بينه وبين راجل غريب الأطوار ماسك جرنال في ايده وبيقرأ فيه، الراجل اللي مارفعش عينيه من الجرنال رغم الدربكة اللي حصلت حواليه، اعتقد لو بيحبها مش هيسيبها قاعدة جنب واحد غريب زي ده، خصوصًا إنه باين جدًا إنهم مايعرفوش بعض وده لإن الست مايلة بجسمها ناحية جوزها، في محاولة منها لعدم الإحتكاك بالشخص غريب الأطوار، مشيت ناحية الكرسي بتاعي بهدوء واللي كان ورا الست العجوزة والشاب البائس، كل مرة بدعي ربنا ان المسافر اللي جنبي يحصله حاجة مفاجئة ومايسفرش واخد راحتي في الرحلة لكن كالعادة لقيت الكرسين اللي جنبي مشغولين، شاب ومعاه حبيبته، شكلهم متجوزين قريب أو رايحين يقضوا شهر العسل، وده باين من السعادة اللي مرسومة ببلاهة على وشهم، الشاب كان مقعد حبيبته جنب الشباك، ابتسمتله وانا بوريه التذكرة وبقوله...
- لو سمحت انا الكرسي بتاعي جنب الشباك فياريت حضرتك تعديني ادخل مكاني.
- سوري.
- اه بيتكلم انجليزي هو كمان، هي الطيارة دي مش راكبها مصريين غيري ولا ايه؟
عيدت الجملة تاني بس المرة دي باللغة الإنجليزية، فاعتذر وطلب من حبيبته تقوم بس بان عليها الزعل، مارضتش اتسبب في كسر قلبها اللي كده كده هيتكسر كمان شهور، وقولت اسيبها في السعادة المؤقتة دي بدل ما تقول إني كنت فال وحش عليهم، فبشياكة قولتله يسيبها قاعدة مكانها وانا هقعد على الكرسي الفاضي، شكروني الاتنين بامتنان وبعدها رجعوا يمارسوا ببلاهة حبهم اللزج، انا في العادي مش ضد الحب، لكني ضد البلاهة في الحب، يعني تقدر تقول عليا إنسان واقعي شوية، مش بحب الرومانسية المفرطة، ما علينا من الموضوع ده لإن دي اخر مشاكلي دلوقتي، خلينا نركز على المشكلة الأكبر، وهي إني بخاف من الطيارات، رغم السفريات الكتير اللي سافرتها، ورغم إني دايمًا بحجز الكرسي اللي جنب الشباك إلا إني لحد دلوقتي ماقدرتش أبص ولا مرة من الشباك، وده بسبب المنوم اللي باخده أول ما بركب الطيارة وغالبًا لو صحيت واحنا في الجو باخد حباية كمان وانام، طب ليه بحجز الكرسي جنب الشباك؟.. بصراحة مش عارف!.. بس يمكن على أمل إني اتجرأ في مرة وافتحه وأشوف الدنيا من فوق، مديت ايدي في جيبي وطلعت شريط المنوم، خدت حباية ورجعت الشريط تاني في جيبي، بعدها حطيت الحباية في بوقي ورجعت ضهر الكرسي لورا شوية وبدأت استعد للنوم، بس بعد خمس دقايق تقريبًا سمعت صوت ضحكة رقيقة جنبي، بصيت على يميني وساعتها شوفت طفلة عندها حوالي 11 سنة ماسكة مجلة بتقرأ فيها وبتضحك، لاحظِت إني ببص عليها فبصت لي بخجل وهي بتكتم ضحكتها وبعدين رجعت بصت في المجلة من تاني، ابتسمت وانا بقول في سري باينها هتبقى رحلة في باص المدرسة، غمضت عيني وبالتدريج بدأت الأصوات تختفي من حواليا.
ماعرفش نمت قد ايه لكن فتحت عيني على صوت دوشة عالية جدًا، بصيت لاقيت المضيفة واقفة بيني وبين البنت اللي كانت منهارة في العياط والمضيفة بتقولها...
- انا قولت تقعدي مكانك ماتتحركيش، ينفع اللي حصل ده؟
بصتلها البنت والدموع مغرقة وشها...
- انا اسفة ماكنش قصدي.
- ياريت ماتتحركيش تاني.
- حاضر.
قومت من مكاني وسألت المضيفة...
- ايه اللي حصل؟.. وليه بتتكلمي معاها كده؟
بصت لي ببرود وبعدين قالتلي بعصبية...
- لو سمحت يافندم استريح في كرسيك.
حسيت بالخجل فقعدت مكاني، وبعد ما المضيفة نضفت الأرض ومشيت، بصيت للطفلة لاقيتها لسه بتعيط لكنها بتحاول تكتم صوت عياطها، بصراحة صعبت عليا وعشان كده قومت وروحت ناحيتها، قعدت على ركبي وابتسمت في وشها وانا بسألها...
- اسمك ايه؟
- ريم.
- وانا اسمي جاسر.. هم بابا وماما فين؟
- بابا عند ربنا.
بصيت لها بعطف وبعدين سألتها...
- طب وماما فين يا حبيبتي؟
- ماما مستنياني في المطار عشان انا رايحلها.
- يعني انتِ مش معاكِ حد هنا خالص؟
- لا انا لوحدي، وطنط دي هي المسؤولة عني، ماما قالت لي اسمع كلامها طول الرحلة، بس انا والله ماكنتش قاصدة اوقع الحاجة دي.
- ولا يهمك يا حبيبتي.. ماتشغليش بالك.. تاخدي بونبوني؟
- انت معاك بونبوني؟
- اه.. ثانية واحدة.
حطيت ايدي في جيبي وبعدين مديتها ناحيتها وانا بقولها...
- اتفضلي.
بصت لي باستغراب وهي بتسألني...
- ايه ده؟!
بصيت على ايدي لقتني ماسك شريط المنوم، ابتسمت وانا بقولها...
- لا لا، ده بونبوني بتاع الكبار، خدي انتِ بتاع الصغيرين.
حطيت ايدي في الجيب التاني وخرجت منه بونبون وناولتهولها، خدته مني وهي حزينة، فسألتها باستغراب...
- زعلانة ليه تاني؟
-  عشان بونبوني الكبار ده هيموتك، انت هتموت.
بلعت ريقي بصعوبة وانا بقولها...
- كلنا هنموت ياحبيبتي.
- لا بس انت هتموت بسببه.. ممكن ماتخدوش تاني؟
- حاضر مش هاخده تاني.. بس هو انتِ عرفتي منين اني هموت بسببه؟
في اللحظة دي قربت مني المضيفة وقالت لي...
- يا استاذ لو سمحت ارجع كرسيك ومالكش دعوة بالبنت دي.
مش فاهم ليه المضيفة بتتعامل بالعنف ده، بس بصراحة ماردتش عليها وقومت قعدت على الكرسي بتاعي بهدوء، بعدها وأول ما مشيت بصيت للبنت لاقيتها غمضت عينيها ونامت، استريحت انا كمان في الكرسي وغمضت عيني وحاولت انام، بس ماعداش أكتر من عشر دقايق وسمعت صوت الطيار، فتحت عيني لاقيت مضيفة شكلها غريب واقفة قدامي وبتمثل التعليمات اللي بيقولها الطيار، بعدها طلبت مننا نربط الأحزمة عشان الطيارة هتُقلِع، ربطت الحزام وبعدها بصيت جنبي على البنت عشان اتأكد إنها ربطت حزامها، وساعتها بصت لي بابتسامة وغمزتلي بعينها وبعدين فردت ضهرها في الكرسي ونامت، المرة دي حسيت إني مش قادر أنام، حطيت ايدي في جيبي وخرجت شريط المنوم، بس قبل ما اخرج الحباية من الشريط كلام البنت رن في ودني "انت هتموت بسبب البونبوني ده" ماعرفش ليه حسيت بالرعب وقتها، وقررت إني مش هاخد المنوم تاني، رجعت الشريط في جيبي، وفردت ضهري في الكرسي، والمرة دي حطيت عُصابِة العين على عينيا، وبكده اتحولت الدنيا قدامي لظلام دامس، سرحت بخيالي في أماكن كتير زورتها قبل كده، في محاولة لنسيان الوضع الحالي وتشتيت عقلي عن التفكير في فوبيا الأماكن المرتفعة، والحقيقة إنها كانت محاولة ناجحة جدًا وقدرت أخيرًا انام من غير منوم.
- لو سمحت يا هانم انا ماسمحلكيش تتكلمي معايا بالطريقة دي.
- تسمح ولا ماتسمحش، انا اتكلم زي ما انا عايزه.. وانت هتقوم من جنبي.
دي كانت ترجمة الكلام اللي سمعته، بصيت قدامي بس ماكنتش شايف حاجة، اه نسيت اشيل العُصابة، رفعتها من على عيني وساعتها لاحظت إن الشاب اللي جنبي هو وحبيبته واقفين وبيتابعوا المشهد، وقدامي كانت الست العجوزة واقفة وبتلوح بايديها في وش الشاب الرياضي وهي بتقول بعصبية...
- انا لايمكن اكمل الرحلة جنبك.
المضيفة كانت واقفة جنبها وبتحاول تهديها، فسألِتها...
- خير يا مدام هو عمل ايه؟
- اللي عمله ماينفعش اقول عليه.. لكنه حقير.
اتكلم الشاب في محاولة للدفاع عن نفسه...
- انا ماعملتلهاش حاجة، هي اللي كانت بتوريني صور بنتها وحفيدتها، بعدها لاقيتها فجأة وقفت وبتصرخ في وشي.
 في اللحظة دي شتمته الست بلغتها شتيمة بشعة، وبعدين لفت للمضيفة وهي بتعيط وقالت...
- انا لا يمكن أكمل الرحلة جنب الشخص ده.. ده لا يمكن يكون بني آدم.
ردت عليها المضيفة بدون أي اعتبار لحالتها النفسية وقالتلها...
- انا اسفة بس مش هقدر انقل أي حد فيكوا من مكانه.
بصت لها الست باستغراب...
- انا بقولك عمل حاجة بشعة وانتِ عايزاني اكمل الرحلة جنبه!
- انا اسفة يا هانم، بس الرحلة كومبليت، بس ممكن لو حضرتك عرفتي تقنعي حد يبدل الكرسي بتاعه معاكِ تنقلي مكانه، لكن غير كده مش هقدر.
- انا ماعرفش حد من الركاب أكيد، وطبعًا مستحيل حد يوافق يقعد جنب شخص همجي زي ده.
حسيت ساعتها بالمسؤولية وقررت إني أنقذ العجوز من شباك الصياد الشاب، قربت منهم وقولت للست العجوزة...
- حضرتك تقدري ترجعي ورا مكاني وانا هقعد هنا مكانك.
بصت لي بامتنان وقالتلي...
- بجد!.. انا مش عارفة أشكر حضرتك إزاي؟
- مافيش داعي للشكر، اتفضلي حضرتك خدي حاجتك وانا هرجع ورا أجيب حاجتي وأجي مكانك.
- انا بشكرك جدًا على الموقف النبيل ده.
- العفو ياهانم.
الشاب بص لي ساعتها بغيظ وانا بحط شنطة ايدي جنبي وببتسم في وشه وبقوله...
- كده الرحلة هتكون ألطف.
ارتبك شوية قبل ما يقولي...
- اه عندك حق، دي ست مجنونة، انا عايز أشكرك إنك أنقذتني منها.
- العفو، انا اسمي جاسر.
مد ايده وسلم عليا وهو بيقول...
- وانا رضا، بس تقدر تقولي يا إكسبريس.
- إكسبريس!
- اه اصل أخوك كان أسرع واحد يجيب أي واحدة.
- تجيبها منين يعني؟
- أجيبها يعني.. ألاغيها أخرج معاها، كده.. انت فاهمني؟
- اه اه فهمتك.
- بس ياسيدي فالعيال أصحابي سموني إكسبريس.
- وانت رايح فين بقى؟
- زهقت من المحلي قولت احترف، واهو اتعرفلي على واحدة خواجاية اتجوزها والعيشة ترتاح بقى واعدي.
- وانت واثق في نفسك أوي كده ليه؟
- عيب عليك، أخوك كفاءة ويعجبك.
- يعجبني ايه بس، ما انت لسه الست مدياك على قفاك.
- ست غشيمة مابتفهمش، ده انا لسه بقولها... لاقيتها قامت وثورجت وفرجت علينا الطيارة.
- احب ابشرك يا أخ إكسبريس إنك مش هتكمل هناك أكتر من يومين.
- ياجدع فال الله ولا فالك، ادعيلي كده ربنا يوفقني.
ابتسمت وانا بقوله...
- ادعيلك ربنا يوفقك، هو انت طالع تعمل عمرة!
- شوف بقى اهو ده الكلام اللي يزعل، يا جاسر يا اخويا افهمني، انا مش رايح اعمل حاجة غلط، انا رايح اتجوز واشتغل.
- والله لو رايح تتجوز وتشتغل يبقى ربنا يوفقك.
- ايوة كده، دعوة حلوة خلي الواحد يتفائل في السفرية دي.
- بس قولي صحيح.. انت ليه ماتجوزتش واشتغلت في بلدك؟
- وانا هتجوز واشتغل ازاي يعني؟.. انت مش عايش معانا ولا ايه؟
- لا عايش معاكوا، وعشان كده بسألك.
- طب انت متجوز؟
- لا بس دع عشان لسه بدور على بنت الحلال لكن في الحقيقة انا بشتغل ودخلي كويس الحمدلله.
- قليلين اللي زيك كده.
- لا هم مش قليلين، انت بس اللي مش فاضي تشتغل وتتجوز من كتر البنات اللي بتجيبهم مش كده ولا ايه يا.. إكسبريس.
- اهو انت كده قاريني غلط، انت فاكر يعني اني ماحاولتش؟
- انا متأكد إنك ماحاولتش، يابني اللي بيسعى ربنا بيكرمه بالذات لو بيسعى عشان الحلال.
- طب بس بس، انت عمرك ماهتفهمني.. انا هنام.
لاقيته بعدها رجع ضهره في الكرسي وغمض عينيه، بس بعد دقيقتين سمعته بيقول...
- بس عارف، انت صح، انا فعلًا ماحاولتش، وطول عمري إنسان فاشل، ابويا دايمًا كان بيقولي كده، طول عمري كنت بحاول انجح في أي حاجة عشان أقف قدامه واقوله اني مش فاشل، بس للأسف كنت كل مرة بفشل فشل ذريع، الحاجة الوحيدة اللي نجحت فيها هي إني ادمر مستقبلي، عشان كده زهقت وقررت أهرب من كل حاجة بتحسسني بفشلي، بس حتى لما قولتله إني عايز اسافر قالي نفس الكلام اللي انت قولته، إني هترحل بعد يومين وهفشل من تاني.. بس لا انا مش هفشل المرة دي مهما حصل.
ماردتش عليه وسيبته يفضفض مع نفسه، لفيت وشي الناحية التانية لاقيت الراجل الوقور صاحب النضارات قاعد وبيبص علينا، زق بسبباته النضارة على عينيه  قبل ما يرجع يبص قدامه في الكرسي، الراجل ده غريب جدًا، مركز مع كل اللي حواليه ماعدا مراته، ياترى ممكن يكونوا متخانقين؟.. بس أكيد لا، الله وانا مالي!.. انا شاغل بالي بهم ليه؟.. انا هنام وافكني من كل اللي حواليا دول.. وفعلًأ غمضت عيني وقررت انام.
(في الخلفية صوت بكاء رضيع)
فتحت عيني ببطء وبصيت ناحية الصوت، كان الرضيع اللي شوفته على صدر أمه في أول الطيارة، الأم بتحاول تسكته بس صراخه بيعلى، باين عليها القلق، حطت ايدها على جبينه وساعتها القلق اتحول لرعب وصرخت...
- دكتور، انا محتاجة دكتور بسرعة.
المضيفة عدت من جنبي وهي بتجري عليها وبتسألها بلهفة...
- في ايه؟
- ابني بيروح مني.. شوفيلي دكتور أرجوكِ.
- ماله الولد؟
- درجة حرارته عالية جدًا.
لفت المضيفة وشها ناحيتنا وهي بتقول بصوت عالي...
- في دكتور معانا على الطيارة هنا؟
ماحدش رد، عادت السؤال مرة واتنين وتلاتة، الكل بيبص عليها بأسف لكن ماحدش فيهم بيرد، الأم بتبصلنا بدموع كلها توسل ورجاء، وكأنها بتطلب مننا إن أي حد فينا يقول إنه دكتور حتى لو بالكدب، وفجأة لاقيت المضيفة بتقرب مني وبتبص لي بصة غضب وبتقولي...
- لما انت دكتور مابتنقذوش ليه؟
بصيت ورايا وجنبي وبعدين سألتها باستغراب...
- انتِ بتكلميني انا؟
- اومال بكلم مين يعني؟
- انا مش دكتور.. مين قالك كده؟
- انت بتنكر نفسك ومش عايز تساعد الطفل ليه؟
- ياستي انا مش دكتور صدقيني.. وادي جوازي اهو عشان تصدقي.
طلعت الجواز من جيبي وفتحته وانا بقولها...
- اهو جاسر نبيه، المهنة طبيب.. ايه ده؟!!!!
بصت لي بصة احتقار قبل ما تقول...
- إزاي سمحت لنفسك تشوف طفل بيموت قدامك وتوقف تتفرج؟!
ماكنتش عارف أرد عليها بإيه؟.. انا متأكد إني مش دكتور، بس الجواز مكتوب فيه كده إزاي؟.. في اللحظة دي قربت الأم مني وبدموعها قالت...
- أرجوك إلحق ابني.. انا مش عايزاه يروح مني.
- يا مدام انا مقدر حالتك جدًا.. بس والله العظيم انا مش دكتور.
- حتى لو مش دكتور حاول تعمله أي حاجة.. أرجوك.
بصيت على الولد اللي كان نايم على الكرسي وصوت صراخه بيعلى أكتر وأكتر والمضيفة واقفة جنبه، بعدها بصيت للأم اللي واقفة قدامي وقولتلها...
- صدقيني لو عملتله أي حاجة ممكن أضره.. ياريت لو تشوفي أي حد غيري.
- مافيش على الطيارة دكتور غيرك.. أرجوك.
- حضرتك ليه مش قادرة تقتنعي إني مش...
قبل ما أكمل جملتي شوفت راجل أسمر وطويل واقف قدام كرسي الطفل، شاورت للأم وانا بقولها بلهفة...
- اهو في واحد بيعالجه اهو.
لفت وشها بسرعة ناحية ابنها وبعدين بصت لي باستغراب...
- واحد مين؟!.. فين ده؟
- هناك اهو واقف قدامه.. راجل اسمر وطويل.
وشها اتغير وبصت لي باحتقار هي كمان وبعدين سابتني ومشيت، بدأت تلف على الركاب واحد واحد وهي بتصرخ...
- أرجوكوا ساعدوني.. أي حد فيكوا يساعدني.. ابني بيروح مني.
صوت صراخ الطفل كان فظيع، الراجل واقف قدامه وبيحاول ينقذه، باين على وشه القلق والرعب، صوت الطفل اختفى، الراجل لف وشه وبص لي بأسف وهو بيهز دماغه، المضيفة شهقت، الأم جريت على ابنها وقفت قدامه مصدومة، وبعدها قربت منه ببطء وهي بتحاول تستجدي فيه الروح، لكن خلاص الطفل مات، قعدت على ركبتها وحطت راسها على صدر الطفل وانهارت في العياط، كنت واقف حاسس بالذنب مش عارف ليه؟.. بصيت جنبي لاقيت الراجل صاحب النضارات بيبص لي بقرف وهو بيهز دماغه، وفجأة لاقيت ايد بتتحط على كتفي، لفيت وكانت الست العجوزة، بصت لي بحزن وقالت...
- انت ليه مانقذتوش؟.. ليه ماوقفتش جنبه زي ما وقفت جنبي؟
- انا مش دكتور صدقيني.
- بس الجواز مكتوب فيه إنك دكتور.
- ما انا هتجنن مش عارف إزاي ده حصل؟!!
سمعت صرخت الأم في ودني وهي بتقول...
- انت لسه هتكدب!
بصيت عليها لاقيتها بتبص ناحيتي بغضب وبعدها قامت وشالت الطفل وقربت بيه مني...
- اهو خلاص مات.. ماعدش فيه روح، مش محتاج تكدب تاني يا دكتور عشان تهرب من المسؤولية.. ابني خلاص مات.. بس انا مش هسيبك.. انت سامع؟!.. مش هسيبك.
- والله انا مش دكتور، وبعدين ما الراجل حاول يساعده وماعرفش.
سألتني العجوزة باستغراب...
- راجل مين يابني؟
- الراجل الأسمر الطويل اللي كان واقف قدام الطفل قبل ما يموت.
- ماكنش فيه حد واقف جنب الطفل.
- انتوا عايزين تجننوني صح؟!.. مصممين اني دكتور، ودلوقتي بتقولوا إنه مافيش حد كان واقف جنبه، لا بقى انا متأكد من اللي بقوله.
- اهدا يابني، صدقني ماكنش فيه حد واقف جنب الطفل.
ردت عليها الأم...
- هو بيعمل كده عشان يهرب من المسؤولية.. فاكر إني هسيبه.
زعقت فيها...
- مسؤولية ايه؟.. ابنك كده كده كان هيموت.. واللي انتِ عايزة تعمليه اعمليه.
برقت لي بغضب وشر الدنيا كله في عينيها، ماقدرش أنكر إني اترعبت من نظرتها، واستنيتها تقول أي تهديد تاني لكنها اكتفت بالنظرة دي وبعدها سابتني ومشيت، بلعت ريقي بصعوبة وبصيت للست العجوزة لاقيتها بتبص لي بنظرة حزينة جدًا وبعدها رجعت قعدت في كرسيها، فضِلت واقف مكاني مش قادر افكر، كل اللي كان بيدور في عقلي ساعتها إن الركاب دول عايزين يجننوني، بس الجواز.. الجواز ازاي اتكتب فيه إني دكتور؟.. في حاجة غلط، وفي وسط ده كله وفجأة ظهر قدامي الراجل الأسمر الطويل، واقف قدامي، بيبص لي بأسى وحزن، المرة دي سألته بسرعة...
- انت مين؟.. وليه الناس دي مش شايفاك زيي؟
- ماحدش غيرك يقدر يشوفوني.
- اشمعنا انا؟
نلتقي في الجزء الثاني 

بقلم الكاتب: شادي إسماعيل
التنقل السريع